البحث الرابع
النظرية الشخصية
أولا تقديم:
لا يمكن الجزم بوجود تعريف جامع ومانع لنظرية من النظريات التي تحكم مجالا من مجالات المعرفة لدى الإنسان ’ إذ غالبا ما يتسع مفهوم هذه النظرية في بعض الحالات ليشمل مجالات مختلفة لفروع متعددة من فروع المعرفة ليضيق في حالات أخرى حتى يصبح اقل شمولية من سابقه وأكثر تركيزا منه ليعطي بذلك نظرة أكثر عمقا وأكثر دقة من غيره وهذا هو ما يعرف بمبدأ التخصص في مجالات المعرفة.
وإذا كانت مختلف العلوم البشرية وأدبياتها تعرف زخما من النظريات التي تحدد مبادئها ونطاقها وتوجهاتها فانه كان من الضروري أن يكون لهذا الزخم منبعا ينبع منه ليصب نهرا جارفا في أوعية هذه العلوم أو هذه الأدبيات’ وهذا المنبع طبعا ’هو مختلف الفلسفات التي أمكن الخروج منها بنظرية تحدد رؤيا أصحابها إلى ظاهرة من الظواهر أو موضوع من الموضوعات استأثر باهتمامهم وشكل مشغل بالهم ومعضلة حياتهم إلى أن وضعوا نظرياتهم لتكون حلولا لهذه المشكلات’ فكان خير ما اهتدوا إليه هو وضع نظرية فلسفية خلاقة تنبع من ذات الفطرة البشرية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في الكون ’ فتوافقت أفكارهم المحدودة مع الوحي الإلهي الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم فكان أن اتفقوا على وضع مدرسة تكون غاية في الدقة والتنظيم وضبط مختلف المقاييس والمعايير في مختلف فروع المعرفة وهذه المدرسة هي مدرسة القانون الطبيعي التي تعتبر أصل معظم النظريات السائدة في الوقت الحاضر بما فيها النظرية الشخصية موضوع هذا الفصل .
ثانيا تعريف:
ومدرسة القانون الطبيعي هي المدرسة التي ابتدأت منذ العصر اليوناني على يد كل من سقراط وأفلاطون وأرسطو في شكل أفكار فلسفية نابعة من واقع مظلم أليم ’ونادت بضرورة وضع قواعد قانونية على أسس من قوانين الطبيعة التي لا تتغير ولا تتبدل والثابتة في الكون مهما تكون الظروف أو الملابسات ’[1] للتسوية بين البشر’ مأخوذة من مختلف روابطه وعلاقاته مع بعضه البعض’هذه الروابط النابعة من طبيعته التي خلق عليها والتي لن ينتج عنها إلا أمورا أو تصرفات كانت طبيعته الاجتماعية الناتجة عن شخصه كانسان ’[2] هي سبب ظهورها’ وبالتالي وجب أن تكون القواعد التي تحكمها قواعد مماثلة لها لا تخرج عن حيز الطبيعة التي لا تتبدل ولا تتغير مهما كانت الظروف . وتطورت في عهد الرومان لتصبح أساسا في أول مدونة عرفها عصره وهي مدونة جستنيان حيث التفت الرومان’لاسيما مفكريهم وعلى رأسهم الخطيب شيشرون ’ إلى أن الشعوب المستعمرة إنما هي شعوب من بشر ومن ذات طبيعة شعب الرومان وان العلاقات التي تجمعهم مع بعضهم ’هي علاقات اجتماعية نابعة من طبيعتهم كبشر ومن تم وجب أن تكون القوانين التي تحكمها قوانين من ذات الثوب ’مبنية على الطبيعة البشرية والتي تقتضي العدل والمساواة في كل العلاقات ومهما يكون أصل أطرافها ’فكان أن ظهر قانونا جديدا في حياة الرومان يدل على التمدن والتحضر ويحل محل قانون الشعوب الذي لم يكن يقر بهذه النزعة وهو القانون المدني’ معلنا عن حياة تشريعية وبشرية جديدة في حياة الرومان .
ولما انتهى العهد القديم وهل هلال الإسلام بزغ فجر حياة جديدة أكملت ما عجزت العقول التي ابتدعت مدرسة الطبيعة عن إتيانه وانتهت إلى أن خالق الكون والبشر إنما هو الله الواحد الأحد الذي فطر الناس جميعا على فطرة واحدة هي طبيعة الإنسان ’هذا المخلوق الذي بالرغم من ضعفه وقصور عقله تحمل الأمانة والتزم بالعبودية لله تعالى في الأرض بدليل قوله تعالى :" إنا عرضنا الأمانة على السماوات والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان انه كان ظلوما جهولا" ’[3] فكان أن نزلت أحكام التكليف القائمة كلها على أسس فطرية طبيعية منبعثة من ذات المكلف قوامها العدل والمساواة بين الناس وتوجيه المخلوق نحو الخير الأسمى الذي انتهى إليه العقل البشري وحدده في العقل والعالم العلوي وعالم المثل معتبرة إياه الله الذي خلق كل شيء بما في ذلك العقل وعالم الملكوت ’[4] الذي سماه فلاسفة اليونان وغيرهم بالعلم العلوي وعالم الفضيلة وجعله غاية الغايات . إلى أن انتهى الفقهاء وعلماء الأصول إلى وضع معايير على أساسها يمكن التميز بين الخير وبين الشر كان من جملتها المعيار الشخصي أو النظرية الشخصية موضوع هذا الفصل.
وبعد انتهاء العهد الروماني وسقوط آخر الدويلات المنبثقة عنه دخلت أوربا في مرحلة العصر الوسيط هذا العصر الذي لم يكن إلا مرحلة انتقالية بالنسبة لأوربا لم تسجل خلاله إلا فترة ظلامية من الفوضى و اللااستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي على حد سواء باستثناء بنية تحتية مهدت الطريق نحو بزوغ عصر جديد بالنسبة لها وهو العصر الحديث هذا العصر الذي دخلت فيه أوربا إلى مرحلة التشريع والتدوين والتقنين على مختلف المستويات فطورت النظريات الرومانية القديمة على ضوء من مقتضيات الشريعة الإسلامية فكان أن جاءت لأول مرة بالنظرية الكلاسيكية في ثوبها المعاصر وطورتها إلى أن أصبحت ما يعرف بالنظرية المادية التي سوف نمر عليها كراما في هذا البحث لتعود من جديد إلى تطبيق النظرية الشخصية في معظم تشريعاتها في العصر المعاصر لما اتسمت به تشريعاتها من جمود وتقهقر قبله.
والنظرية الشخصية في تعريفها تتخذ مفهومين مختلفين أولهما ضيق والثاني أوسع ليتسع كلما ازداد نطاقها إلى أن تصير النظرية الموضوعية ذاتها أو ما يسميه الفقهاء عادة بالنظرية الكلاسيكية الجديدة وتتشعب وتكبر إلى أن تتصرف إلى نظريات أخرى أمكن القول عنها ببناتها وتتعمق إلى أن تخضع مادتها لدراسات مختبرية ومجهرية عالية.
وهكذا ذهب الفقه إلى تعريفها بأنها النظرية التي تجعل الشخص أساس بناء القاعدة القانونية وبمعنى آخر هي النظرية التي تجعل من القانون مجموعة من القواعد لا تنطبق إلا على طائفة من الأشخاص تتوفر فيهم شروط انطباقها ’ وهذا هو المفهوم الضيق لها.
إلا انه ومع توسع أوربا في كل المجالات الاقتصادية تبين لها أن هذه النظرية لم تعد كافية في سن قوانينها فعمدت إلى نظرية أكثر اتساعها وهي النظرية الشخصية التي تقوم على عناصر اقتصادية ومادية فأصبحت تستلزم تعريفا مناسبا لها وهو أن تكون هذه النظرية هي التي تجعل من القانون مجموعة القواعد القانونية التي تسري على مجموعة من العناصر المادية والمعنوية سواء كانت هذه العناصر عناصر بشرية أو عناصر مادية كالمعدات والتنظيم والتجهيز وغيره أو عليهما معا إذا اتحدا في وحدة معينة تتوفر فيها شروط تطبيقها وهذا هو الأمر الذي جعل البعض يعتقد أن هذه النظرية هي النظرية المادية في حين أن الواقع عكس ذلك إذ أن هذه الأخيرة لا تعدو أن تكون مجرد النظرية الموضوعية أو النظرية الشخصية الموضوعية لإدخالها بعض العناصر المادية في نطاقها ليس إلا ’[5]وهذا هو المفهوم الواسع لها.
وبرأيي فان التعريف الذي يمكن صياغته لهذه النظرية حتى تكون أكثر دقة هو أنها النظرية التي تتخذ من شخص المكلف أساسا في وضع القاعدة القانونية المنظمة للسلوك البشري داخل نطاق معين وبه تكون هذه النظرية هي التي تجمع بين النظرية الكلاسيكية والنظرية الكلاسيكية الجديدة إذ في الوقت الذي ينظم فيه موضوع القاعدة القانونية يؤخذ في الحسبان المجال الذي ينظم فيه فإذا كان هذا المجال يقتضي استعمال معدات معينة امتد التعريف إلى الناحية الموضوعية أما إذا كان المجال لا يقتضي أية معدات مادية فانه يبقى مقتصرا على الجانب الشخصي دن أن يعيبه ذلك في شيء .
والنظرية الشخصية بهذا المفهوم سواء الضيق منه أو الواسع لا ينحصر مجال تطبيقها في مجال دون آخر بل تتسع لتشمل كل فروع القانون والمعرفة ’ وهكذا نجدها وعلى سبيل المثال في مجال المحاماة تتخذ المفهوم الضيق لها في حين أنها في مجال التجارة نجدها تتخذ المفهوم الواسع لها لتنصرف عنه في بعض الحالات وتتحول إلى نظرية مادية بعيدة عن شخص المكلف .وفي كثير من فروع المعرفة والقانون الأخرى [6] نجدها تتصرف وتتشعب إلى أن يصير لها بنات وتدخل مجال المختبرات والمجهريات ’ فعلى سبيل المثال يذهب أنصار المذهب الفردي في تحليل السلوك الشخصي و الظاهرة الإجرامية إلى ما يلي :
برز في هذا المجال جملة من العلماء الباحثون في السلوك البشري من منطلقات فطرية طبيعية في الإنسان من مختلف فروع المعرفة ووضعوا كنتائج لأبحاثهم عدة أفكار ونظريات سار عليها العلم الحديث في مختلف المجالات بما فيها المجال التشريعي ردحا من الزمن ومنها من لزال معتمدا في مجالات شتى لغاية الوقت الراهن ونذكر من جملة هذه النظريات على سبيل المثال ما يلي :
نظرية التكوين الفطري للإنسان :
من بين العلماء الذين برزوا في هذا المجال ’العالم الفرنسي في مجال الطب العقلي لافتير الذي عاش ما بين 1741 و1801 للميلاد والمتخصص في علم فراسة الدماغ الذي اكتشف انه من خلال شكل جمجمة الإنسان يمكن الاستدلال على شخصيته وميوله ومدى استعداده الإجرامي ومدى قدرته على التعلم والاستجابة لأنماط تعديل السلوك.
وكذلك العالم الفرنسي في علم فراسة الدماغ أيضا الدكتور جال الذي عاش ما بين 1758 و1828للميلاد الذي توصل إلى وجود ارتباط بين التكوين العقلي للإنسان وتكوينه النفسي وشكل جمجمته.وان المظهر الخارجي للجمجمة وتضاريسه السطحية يعكس التكوين الداخلي للدماغ وما يحمله من وظائف وملكات أو قدرات عقلية ونفسية ومزاجية.
نظرية التكوين الإجرامي الإنسان:
وبرز في هدا المجال زمرة من العلماء منهم العالم الايطالي ديتوليو الذي أسس انتروبولوجيته من منطلق دراسة شخصية الإنسان وفقا للمنهج العلمي وذلك من الناحية النباتية والتكاثرية والارتباطية. وضمن هده النظرية في كتابه المعنون بالاستعداد السابق للإجرام وتقوم هده الفكرة على أساس دراسة شخصية الإنسان وفقا للمنهج البيولوجي والنفسي وفي رأيه لا يمكن لهده الدراسة أن تستقيم إلا إذا تضافر كل من علم الأنتروبولوجيا وعلم الفيزيولوجيا وعلم النفس التجريبي والطب العقلي والأفكار الأساسية للعلوم الاجتماعية .
نظرية التكوين النفسي للإنسان :
ومن بين العلماء الذين برزوا في هدا المجال العالم النمساوي سيجموند فوريد الذي يقسم النفس البشرية إلى طبقتين وهما الذات اللاشعورية وهي مجموع العمليات العقلية الباطنية التي لا يدرك كنهها أو نشاطها إلا بالدخول في أغوارها وفقا لمناهج معينة ولها تأثير قوي في أفكار الإنسان ومعتقداته وطباعه وعواطفه والذات الشعورية وتتألف من عمليات عقلية ظاهرية يمكن إدراك حقيقتها وكنهها كالغضب والفرح والحب والكراهية ...الخ ومن خلال الصراع بين هاتين الطبقتين حسب فرويد يمكن تفسير السلوك الإنساني بصورة عامة والسلوك الإجرامي بصورة خاصة. [7]
نظرية التكوين العقلي للإنسان :
وفي مجال التكوين العقلي ’وهو الاتجاه الأكثر ملائمة للتيار الإسلامي في التكليف’ برز جملة من العلماء وعلى رأسهم كودا راد صاحب نظرية العلاقة بين الضعف العقلي والسلوك الإجرامي والعالم الانكليزي كورنك صاحب كتاب الانكليزي المجرم أو المجرم الانجليزي الصادر عام 1913 م والذي اعتبر الضعف العقلي عاملا أساسيا في الإجرام واعتبر ضعاف العقول أشخاص لا يمكن تعليمهم ولا تدريبهم ولا استخدامهم وهم مضرون لأنفسهم ولغيرهم وليس بمقدورهم إلا الوقوع في هوة الإجرام .ويصنف علماء هدا الاتجاه ضعاف العقول إلى ثلاث زمر وهي :
1. المعتوه ويشكل ادني درجات التخلف العقلي لدى الإنسان ويقدر عمره العقلي بثلاث سنوات
2. والأبله ويتراوح عمره العقلي بين ثلاث سنوات وست سنوات وهو أقل تخلفا من النوع الأول وبمقدوره القيام ببعض الأعمال البسيطة كالحرث وجني الثمار وهو غير قادر على التعلم.
3. والراهن أي الأحمق وهو اقل تخلفا من الأبله وعمر عقله يتراوح بين السابعة والعاشرة من السنوات وقدرته على التعلم وتقبل المعرفة نسبية لا تتجاوز في غالب الأحيان مستوى الثالثة ابتدائي في حين يستطيع القيام ببعض الأعمال البدنية الرتيبة والتي لا تحتاج إلى عمق في التفكير.
ويعتمد أنصار هده النظرية في قياس القوة العقلية على مناهج اختبارية للذكاء والمقارنة بين العمر الزمني وبين العمر العقلي لدى الإنسان فإذا حصل التساوي بينهما كان معدل الذكاء مائة بالمائة أي 100% وهو المستوى العادي للذكاء وفي حالة الانخفاض أو الارتفاع يكون حينئذ مستوى العقل أما ضعيف أو حاد . [8]
نظرية التكوين الفسيولوجي للإنسان :
وبرز في هدا المجال أيضا جملة من العلماء منهم العالم الايطالي بند المشهور باهتمامه بعلاقة الهرمونات بالظاهرة الإجرامية لدى الإنسان وعالم الأنتروبولوجيا سلفا تور المختص في علم الهيئة الخارجية للإنسان وصاحب فكرة العلاقة بين علم الغدد وظهور التلازم بين المميزات الجسمية والنفسية . وينصب أساسا على دراسة الأعضاء البشرية الذي يطلق عليه البعض اسم علم قياس الأعضاء البشرية وغالبا ما يعتمده المحققون في القضايا المعقدة للوصول إلى المبحوث عنه .
نظرية التكوين الوراثي للإنسان :
وفي مجال علم الوراثة وآثارها في السلوك البشري برز أيضا عدة علماء على رأسهم العالم النمساوي مندل المتوفى سنة 1984 م الذي ركز في بحوثه على عملية التكاثر والتناسل والحيوان المنوي والبويضة والكروموسمات والخيوط المشابهة للعصي التي تتكون منها الكرومسمات هده الخيوط التي تشتمل على ما يسمى بالجينات وهي وحدات الوراثة لدى كل الكائنات الحية والتي تؤثر على السلوك البشري بالتبعية للأصل.والعالم الباثولوجي دربريه صاحب الكتاب الذي قلص فيه عام 1925 من نسبة نجاح هده النظرية وقال انه ليس بالضروري أن يكون ابن المجرم دائما مجرما إلا انه بالإمكان أن يرث الفرع الأصل في ميوله ... بمعنى أن هده القاعدة هي قاعدة نسبية فقط أي لا يمكن حصولها في كل الحالات.وفي رأيي أن مسالة النسبية هاته هي ما يضفي على هده النظرية الصبغة العلمية إذ لا يمكن أن تعتبر نظرية من النظريات نظرية علمية إلا إذا كانت تتصف بهذا الوصف وحتى في كثير من العلوم الحقيقية كالرياضيات مثلا .والأمر المعروف علميا في مجال التلقيح هو أن الخلية الملقحة تحمل بصورة كاملة جميع الصفات الجسمية للمولود كالطول والقصر ولون العين والبشرة وفي هذه الخلية تتقرر جميع الصفات الوراثية .[9]
وكل هذه النظريات هي نظريات متولدة و مستوحاة من النظرية الشخصية التي تجعل من الشخص أساس بناء المنهج العلمي والقاعدة القانونية المنظمة للسلوك البشري داخل الجماعة. وهكذا يلاحظ أن هذه النظرية نظرية كبيرة ومتشعبة وسهلة وبسيطة في الفهم والتطبيق وشاملة لمختلف مناحي الحياة البشرية لقيامها على أسس طبيعية في الكون هذه الأسس التي لا تخرج عن حيز الجبلة الإنسانية التي جبله الله عليها والمتمثلة في مختلف غرائزه ونزعاته التي تنموا وتترعرع بنمو جسمه وخلاياه ومكوناته المادية لتنعكس في شكل سلوكي ومعنوي ظاهر للعيان يتأثر بكمالها نضجا وكمالا وبنقصانها تخلفا وعصيانا وقد صدق من قال : "العقل السليم في الجسم السليم" فكلما حافظ الإنسان على فطرته بتجنيبها نواقصها كلما زكى عقله ونمى وكلما أفسد الإنسان فطرته بتعريضها للملذات والشهوات المحرمة كلما نقص عقله وتدهور وإنما الإسلام دين سماوي متكامل ومنظم لحياة الإنسان في الظاهر والباطن جاء لهاته الغاية بالذات فحث الإنسان على تزكية نفسه وحرم عدة ملذات فيها مضرة عليه كالخمر والمخدرات والفواحش وكل ما يفسد العقل وينقص منه أو يضر بالنسل أو ينقص منه فكان بذلك دين العقل والرجحان فيه [10] ودين الوراثة الجيدة متمشيا بذلك مع أهم ما انتهى إليه العقل البشري ومسايرا له فكان دين ونظام يجب ما قبله وما بعده فاتصف بالكمال .
ثالثا: خصوم النظرية الشخصية :
وبالرغم من أن هذه النظرية لقيت نجاحا وإقبالا كبيرا على مستوى مختلف فروع المعرفة فإنها مع ذلك بقيت محط نقد كبير من طرف شريحة عريضة من الفقه ’ إذ إلى جانبها ظهرت مدرسة تطالب بالنظر إلى الإنسان ككائن اجتماعي وجد لتدعيم الجماعة ’ وبموجب التزام اجتماعي تخلى عن كافة حقوقه مقابل التزام الدولة بإسعاده . واعتبرته مسيرا في هذا الكون وغير مخير وان الجماعة هي التي توجه سلوكه وان دوره في هذا السلوك دور جمادي لا يعتد به [11] . فكان أن ظهرت مذاهب متكونة من زمرتين من المذاهب الأولى ثيولوجية ويتزعمها أهل الجبر لاعتقادهم بقدرة الخالق وبدور العقاب والثواب في جبر سلوك المخلوق[12] وبعض من الفلاسفة الذين أخذوا بالمنهاج الديني في آراءهم ونظرياتهم مثل كونفوشيوس الذي يعتقد من منطلقات دينية تقليدية أن السماء تفرض مشيئتها على الناس وهي مصدر الجاه والثروة بالنسبة له .والثانية مادية ويتزعمها كل من سبينوزا الذي اعتبر حرية الإرادة مسالة لا وجود لها إلا في عالم الوهم والخيال خالصا بذلك إلى المفهوم القديم للضرورة . والمدرسة الوضعية التي تأثرت بأفكار عالم الرياضيات أوكست كونت في فلسفته الوضعية التي نشرها عام 1830م التي تعتبر الإنسان كائن بغير إرادة مجبر على أفعاله وان سلوكه يأتي نتيجة تضافر بعض العوامل الفردية مع بعض العوامل الاجتماعية وهي نتيجة حتمية ينساق إليها.
وعموما فانه في نطاق البحث بصدد هذا الموضوع فان القول المعول عليه هو الراجع إلى أنصار المذاهب الاجتماعية والتي ظهرت إلى حيز الوجود منذ زمن بعيد يعود إلى عهد الفيلسوف أبيقورس الذي اعتبر القانون يقوم على أساس المنفعة التي التزمت الدولة بتحقيقها لأفراد المجتمع رافضا بذلك الفكر الديني الذي طالب به رجال الدين والمنهج العقلي الذي طالب به غيره من الفلاسفة واعتبر القانون من نتاج تعاقد بين الفرد والدولة . إلى عهد الرومان في أواخر العهد الإمبراطوري ثم مرت إلى عهد العصور الوسطى إلى أن تأسس عليها نظام الإقطاع وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ظهرت فكرة العقد الاجتماعي بشكل صريح وواضح علي يد ثلاثة من المنظرين الأوربيين وهم :
توماس هوبز الذي عاش ما بين 1588 و 1679 للميلاد والذي صاغ في كتابه الصادر سنة 1651م نظريته في العقد الاجتماعي والتي اعتبر الإنسان بموجبها في بدايته كان يتمتع بحق مطلق على سائر الأشياء وكانت إرادته مطلقة في تحقيق كل رغباته مما نتج عنه الدخول في صراع مع غيره من بني جنسه صراع لا يحكمه سلطان إلا سلطان القوة قصد تحقيق هذه الرغبات فصار الإنسان ذئب لأخيه الإنسان . واعتبر القوة والدهاء فضيلتان لدى إنسان الطبيعة إذ لا تمييز لديه بين العدل والظلم ولا وجود للقانون عنده وحيث لا جود للقانون لا وجود للإجحاف ولا وجود للعدل. واعتبر هوبز حياة الإنسان في حالة الطبيعة أو الفطرة حياة حرب وبؤس وكفاح حتى الموت لذا فكر هذا المخلوق من اجل البقاء جنسا ونوعا في إيجاد وسيلة للبقاء والتعايش فكان أن اتفق على العيش معا تحت إمرة سلطة واحدة توفق بين المصالح وتضع حدا للبؤس والصراع وهكذا نشا العقد الاجتماعي فانتهت حياة الإنسان الفطرية وابتدأت حياته الاجتماعية المنظمة .
جون لوك وعاش ما بين 1632 و1704 للميلاد والذي يشارك هوبز في اعتبار فكرة العقد الاجتماعي انتقلت بالمجتمع البشري من المجتمع الفطري إلى المجتمع السياسي والذي يختلف عنه في كثير من تفاصيل حياة الإنسان الفطري إذ يعتبر لوك أن الحياة الفطرية لم تكن بحياة الفوضى والوحشية ولم تكن حياة تحتكم إلى القوة بل كانت حياة فاضلة تخضع لقانون الطبيعة إذ كان الفرد إبانه مغمورا بروح العدالة بفطرته وان كان يتمتع بالحرية الشاملة في كل تصرفاته فانه لم يكن يضر بحريته حرية الآخرين وان الفوضى والحرب لم تحل بالمجتمع إلا بعد أن انتقل الإنسان من حياة الفطرة إلى حياة السياسة أي إلا بعد ظهور المجتمع السياسي ومشكل القيادة وهذا هو منشأ الصراع لديه .
وحسب لوك فانه لا يمكن للفرد العاقل أن يقبل بالانتقال من الحسن إلى الأسوأ إلا إذا كان هناك فضل أو امتياز يجب تحقيقه وهذا هو دافع إنسان الفطرة إلى الانتقال من حياة الطبيعة إلى حياة الجماعة إذ بالرغم من أن الإنسان كان يعيش حياة سعيدة في حياة الطبيعة فانه كان لزاما عليه العيش في كنف جماعة تكفل له قدرا من السلامة والاطمئنان على نفسه وعلى ممتلكاته لاسيما أمام غموض قواعد قانون الطبيعة واشتباك المصالح وضرورة وجود قاض منصف يحكم بين الناس . فقرر الإنسان لأجله الخروج من حياة الطبيعة إلى حياة المجتمع وهكذا تم إنشاء اتفاق مبني على رغبة الأفراد فنشا ما يسمى بالعقد لاجتماعي .
جان جاك روسو والذي عاش ما بين 1712 و1778 للميلاد والذي أصدر عام 1762م كتابا سماه العقد الاجتماعي . أعاد فيه صياغة نظرية العقد الاجتماعي ’ التي سبقه إليها في عصره كل من هوبز ولوك ’ صياغة جديدة بشكل جعلها ترتبط باسمه و بالرغم من أنه ليس أول من قال بها .واعتمده رجال الثورة الفرنسية الذين اقتبسوا منه عدة نظريات منها مبدأ سيادة الأمة والإعلان عن حقوق الإنسان لسنة 1789م ’ وهو الأمر الذي جعل مؤلفه هذا يوصف بإنجيل الثورة الفرنسية .[13] ويذهب روسو في هذا المؤلف على نحو ما ذهب إليه لوك في أن الإنسان كان حرا وسعيدا إبان مرحلة حياته الفطرية ’ إلا أن دخوله في الجماعة أفسده. ويبرر روسو ترك الإنسان لحياة الطبيعية ودخوله في الحياة الاجتماعية بكون الطبيعة لم توفر للإنسان كل حاجياته ومتطلباته وبتزايد المصالح الفردية وتضاربها وبتزايد حدة المنافسة وعوامل الشر وسيطرة الملكية الفردية التي حدت من الحرية التي كان يتمتع بها في الطبيعة مما أدى إلى فساد العدالة والمساواة الطبيعية التي كان ينعم بها .ولأجله سعى إلى تحقيق نظام يسوده العدل والفضيلة فكان السبيل إلى ذلك هو التعاقد على الانتقال من الحياة الطبيعية إلى الحياة الاجتماعية فكان العقد الاجتماعي.
وهكذا ظهرت عدة مدراس تعيد أساس بناء القاعدة القانونية إلى المجتمع وأفراده من أجل تحقيق قدر من التنظيم أكثر عدالة ’ من جملتها مدرسة التضامن الاجتماعي التي نادى بها جملة من الفقهاء مثل كلسن الذي يعتبر الدولة مثل الفرد مجبرة على احترام القانون والالتزام به وبالتالي فانه لا مركز أسمى لها من مركزه في التقيد بأحكامه[14].والفقيه الفرنسي ديغي DUGUIT الذي يعتبر من خصوم فكرة الشخصية المعنوية على الإطلاق ولا يعترف باعتبار الدولة شخصية معنوية وإنما يعتبرها مجرد مجموعة من القواعد ويعتبر المجتمع يتكون من حكام ومحكومين وأن كلا منهم ملزم باحترام القانون والخضوع لأحكامه انطلاقا من مبدأ التضامن الاجتماعي الذي لا قيام للمجتمع بدونه وأن الأساس الذي تقوم عليه القاعدة القانونية واحد وكيف ما كان أطراف العلاقة القانونية وهذا الأساس هو مبدأ التضامن الاجتماعي المشار إليه .
وبعد الحرب العالمية الثانية وما بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين ظهرت مدرسة أخرى على يد الفقيه الايطالي فليبوكراماتيكا تدعى مدرسة الدفاع الاجتماعي متأصلة من مدرسة علم الاجتماع التي تعود لمؤسسها الفقيه بران .
وطالبت هذه المدرسة ’في نطاق دفاعها عن الإنسان ’ بضرورة إصلاح المجتمع بإصلاح الخلل الاجتماعي الذي قد يؤثر سلبا على سلوك الناس وبضرورة الاتجاه نحو سياسة تشريعية قوامها إصلاح المجتمع بالوسائل الإنسانية الفعالة وقسمت هذه الوسائل إلى وسائل وقائية تتجلى في القضاء على الخلل الاجتماعي والى وسائل تدبيرية تتجلى في إعادة تكييف المحيط الاجتماعي للإنسان انطلاقا من طبيعته كانسان ولعل من أشهر رواد هذه المدرسة العالم الايطالي لمبروزو الذي يعتبر بمقتضاه من رواد مدرسة التوفيق بين المدرسة الطبيعية والمدرسة الاجتماعية بعد أن كان في السابق من رواد المذهب الفردي المتشدد في الطبيعة البشرية كأساس لتفسير السلوك البشري وبناء القاعدة القانونية بوجه عام . و ديتوليو الذي ادخل المنهج العلمي على نظرية لمبروزو بعد الانتقادات الشديدة التي وجهت إليها وأصبحت نظريته التي تعتبر امتدادا لنظرية لمبروزو نظرية توفيقية بين المدرستين .
ومن هذا المنطلق يجب القول بأنه إلى جانب هذه المدارس المعارضة لمدرسة القانون الطبيعي هناك مدارس توفيقية بين الاتجاهين تطالب بضرورة مراعاة الجانب الشخصي في الإنسان بالنظر إليه داخل محيطه الاجتماعي وبضرورة تأسيس القانون على مقتضيات طبيعية وفقا لمنهج علمي بيولوجي مع الاستعانة بالمبادئ العامة والأفكار الأساسية للعلوم الاجتماعية باعتبار أن الشخصية البشرية وحدة لا تتجزأ سواء من حيث الشكل أو الوظيفة أو الخصائص العضوية والخصائص النفسية والمؤثرات المادية والروحية. إلا أن مجال التفصيل فيها لا يبدو ذو أهمية في هذا البحث.
والجدير بالذكر هو أنه ليست المذاهب الاجتماعية وحدها من يعتبر من خصوم النظرية الشخصية. بل هناك مذاهب أخرى أخذت في معارضة هذه النظرية ’وهذه المبادئ هي مجموع ما يكون النظرية المادية التي تقضي بضرورة النظر إلى موضوع القاعدة القانونية في تحديد طبيعتها وبالتالي تأسيسها وما إن كان هذا العمل مدنيا أو تجاريا أو حرفيا أو مهني أو زجري أو عام أو خاص ’وذلك بصرف النظر عن شخص المكلف بها بحيث أن كل من مارس عملا يعتبر من قبيل أعمال المحاماة ’والحالة هاته’ يعتبر عمله عملا مهنيا يندرج ضمن مهام مهنة المحاماة .إلا أن الواقع غير ذلك إذ يوجد أشخصا يمارسون أعمالا يمكن اعتبارها بطبيعتها أعمالا تدخل ضمن مهام مهنة المحاماة ’كما هو الحال في عقود الوكالة بوجه عام وأعمال الوساطة وأعمال التحكيم وأعمال المستشارين القانونيين وغيرهم ’إلا أنه لايمكن اعتبارهم محامون بالمعنى القانوني للكلمة .وهذا هو وجه العيب فيها وما يبرر ضرورة وأهمية البحث في أساس بناء القاعدة القانونية المنظمة لكل مجال على حدا كما هو الشأن بالنسبة لهذا البحث.
ونشأت هذه النظرية ما بين القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر وتطورت في بداية القرن العشرين ثم مرحلة الحرب العالمية الثانية حيث ظهور المذاهب الاشتراكية وفرضت نفسها على الساحة التشريعية مع بداية العصر المعاصر إلا أن ما يعاب عليها إلى جانب ما ذكر هو أنها نظرية بدون مرجعية سواء كانت هذه المرجعية تاريخية أو فلسفية مما جعل اغلب الفقه يصفها بالنظرية اللقيطة بالإضافة إلى أنها تصيب معظم القوانين بالجمود’ لاسيما تلك التي تحتكم إلى العادات والتقاليد والأعراف و تتطلب مرونة معينة ’ كما هو الحال بالنسبة لقانون التجارة مما جعل كثير من الدول في تشريعاتها المعاصرة تتخلى عنها وتعود إلى نظريتنا الأولى لاسيما صاحبة المفهوم الواسع لها .[15]
رابعا:الفوائد العملية للنظرية الشخصية :
وليس الخوض في دراسة النظرية الشخصية على هذا المستوى دراسة من باب العبث ولكنها دراسة تنطوي على بعض الفوائد العملية التي تأتي كآثار مترتبة على إعمالها وهذه الآثار يمكن إجمالها كما يلي:
1. النظرية المادية تجعل من العمل أساس القاعدة القانونية والنظرية الشخصية تجعل من الشخص أساس هذه القاعدة.ويترتب عليه أن كل من زاول عملا من أعمال مهنة المحاماة أو أي مهنة من المهن من منظور النظرية الأولى يعتبر محاميا في حين انه بمقتضى النظرية الثانية لا يعتبر ممارسا لمهنة من المهن إلا من كان منتسبا لها وفق شروط خاصة وعليه تكون الفائدة المترتبة من ذلك هي أن النظرية الشخصية تميز المحامي عن غيره من الأشخاص الذين يزاولون عملا يعتبر من أعمال مهنة المحاماة بحكم طبيعته .
2. ومن الفوائد المترتبة عن هذه النظرية كذلك هي تحديد من يتحمل أعباء مهنة المحاماة ومن يتمتع بحقوقها ذلك لان لمهنة المحاماة حقوق وواجبات تسمى وفق القانون المنظم لها حقوق وواجبات المحامين.[16] وهذه الحقوق والواجبات كثيرة ومتنوعة وتكاد تكون موحدة بين مختلف الدول العربية إلا أن التباين بشأنها بين الدول العربية والدول الغير عربية لاسيما الغربية منها واضح والفرق كبير ولعل التوصيات الدولية المشار إليها في هذا البحث جاءت أساسا لتقريب الهوة بين ما ذكر .
3. تحديد من يتمتع بقواعد ومبادئ حصانة الدفاع المنصوص عليها في الباب الخامس من قانون تنظيم مهنة المحاماة بالمغرب. [17] ذلك أن هذه القواعد لا يمكن التشبث بمقتضياتها إلا إذا تعلق الأمر بمحام ممارس بصورة فعلية وفق القانون المنظم لمهنة المحاماة أما إذا كان من يمارس عملا من الأعمال التي تعتبر بحكم طبيعتها داخلة في أعمال الممارسة المهنة لمهنة المحاماة فانه والحالة هاته لا يمكن التشبث بمقتضياتها.
4. ومن الفوائد المترتبة أيضا عن تطبيق هذه النظرية تحديد من يخضع لمسطرة التأديب التي يباشرها مجلس الهيئة عند الضرورة والتمييز بينه وبين من لا يخضع لها إذ أن مقتضيات هذه المسطرة لا يمكن إعمالها إلا إذا تعلق الأمر بمحام مقيد بجدول التمرين أو المحامين الرسمين أما الغير فيخضع للمقتضيات المسطرية العامة عند الاقتضاء .
5. ومن الفوائد العملية المترتبة كذلك عن تطبيق هذه النظرية تحديد من له الحق في أن يكون احد الشركاء في الشركات المدنية للمحاماة من غيره’ إذ لا يخول القانون المغربي رقم 09/2008 الحق في هذه المشاركة إلا لمن كان محاميا وفق القانون المنظم لمهنة المحاماة بالمغرب .[18] وطبعا غيره من القوانين الأخرى سواء كانت عربية أو غير عربية .[19]
6. توحيد الرؤيا إلى القاعدة القانونية المنظمة لمهنة المحاماة في العالم إذ ما يلاحظ بصدده هو أن التشريعات الدولية عموما متعددة ومختلفة و لا يمكن حصرها أو الوقوف عليها بشكل سهل عند الضرورة اما إذا كان هناك منهج علمي يجمع بينها فطبعا إن معرفة توجهاتها العامة وإمكانية الوقوف على بعض تفاصيلها سوف يكون أمرا سهلا.
7. كذلك من جملة الفوائد العملية المترتبة على إعمال هذه النظرية تمهيد الطريق نحو إيجاد صيغة لتوحيد مختلف القوانين الدولية في المجال المهني لمهنة المحاماة لاسيما وان إشكالية إيجاد قانون عربي موحد لمهنة المحاماة من الإشكاليات التي تطرح نفسها على الساحة في كثير من المناسبات .
وعموما فان لهذه النظرية في مجال التطبيق فوائد متعددة لا يمكن حصرها .ويمكن إجمالها في تحديد من يخضع لقانون مهنة المحاماة من غيره .وفي إيجاد صيغة لتوحيد القوانين الدولية بهذا الصدد’ بهدف إيجاد محاماة دولية ’اسوة بوجود القضاء الدولي’ الذي يتطلب هذه المسالة التي لن تتحقق إلا بقيام محاماة دولية مقننة بصورة دولية موحدة حرة ومستقلة لأجل قضاء دولي قوي ونزيه ومستقل .وذلك ضمانا لمبدأ المحاكمة العادلة والمنصفة ’كما تتوخاها مختلف التوصيات الدولية في هذا المجال .
الخاتمة:
وكخلاصة لهذا العمل المتواضع وعلى ضوء هده المقاربة التاريخية والفلسفية تبدو الإجابة عن إشكالية هذا الموضوع ذات أهمية علمية وعملية تساعد في تعميق النظر إلى مهنة المحاماة وتساهم في إعطاء الرؤيا الواسعة والدقيقة عن مختلف المبادئ العلمية والفقهية والإنسانية التي تحكمها وتجعل منها مهنة منبثقة من ذات القائم بها ومرتبطة بواقع المجتمع ومتفرعة من ذات كيانه وبنياته الأساسية التي بدونها لا تقوم له قائمة . فإذا كانت مهنة المحاماة مهنة ترتبط أساسا بمفهوم العدالة وتحقيق المساواة بين الناس ومختلف شرائح المجتمع فانه بات من المنطقي أن تقوم على أسس منطقية وعادلة تضمن لكل فئات المجتمع ليس فحسب الاستفادة من خدماتها ولكن أيضا الولوج إليها دون أدني مراعاة لمعوقات ذلك ودون ميز أو تحيز عملا بقواعد إنسانية عادلة ومتميزة قل نظيرها في تنظيمات وتشريعات أخرى وكل ذلك يدل على نبل غايتها وسمو دورها داخل المجتمع المتحضر وابتعادها عن كل أشكال التحيز أو التطرف حفاظا على أصالتها وعراقتها منذ القدم .
ذ/ حسن فيلالي
[1] كالقواعد الفيزيائية أو الكيميائية التي تقضي بحدوث ظواهر طبيعية معينة عند حدوث أخرى مثل قانون تبخر الماء الذي يقضي بكلما بلغت درجة الحرارة تحت قدر الماء مائة درجة فوق الصفر تبخر ما فيه من الماء وكالقاعدة العلمية الطبيعية التي تقضي بلا شيء يخلق جديدا ولا شيء يضيع ولكن الكل يتحول وهو ما يثبته ثبات وزن الكرة الأرضية وعدم تغيره مع مر السنين rien ne se perd rien ne se crée mais tout se transforment... الخ.
[2] المقولة المشهورة لابن خلدون ومعظم علماء الاجتماع والتي مفادها:"أن الإنسان حيوان اجتماعي بطبعه "
[3] سورة الأحزاب الآية 26 .
[4] يقول صاحب مجموع من الفتاوى الكبرى للإمام بنم تيمية المرجع السابق في هدا الصدد :"كما يقولون ما يذكره أبو حامد في مواضع من الفرق بين عالم الملك والملكوت والجبروت ويفسرون عالم الملك بعالم الأجسام وعالم الملكوت بعالم النفوس لأنها باطن الأجسام وعالم الجبروت بالعقول لأنها غير متصلة بالأجسام ولا متعلقة بها ...ولا دل كلام احد من السلف والأئمة على التقسيم الذي يذكرونه بهذه الألفاظ وهم يعبرون بهذه العبارات المعروفة عند المسلمين عن تلك المعاني التي تلقوها عن الفلاسفة وضعا وضعوه ..."راجع بن تيمية مرجع سابق ص23
[5] القانون الدستوري والنظم السياسية ج 1 الدكتور مصطفى قلوش ص 11
[6] كالعلوم الجنائية وعلم النفس ومجال التربية والرعاية والتعليم ومجال الاختبار المهني وغيره.
[7] ذهب العلماء بعيدا على مستوى علم النفس من منظور القانون الطبيعي والنظرية الشخصية وانتهوا إلى نظريات نمطية تحد الميولات الشخصية المهنية وأيضا نظريات ذاتية في الاختبار المهني وناقشوا على مستواها مسالة التوجه المهني’ ومن المراجع المناسبة لهذا المثل كتاب سيكولوجية المهن لصاحبه دونالاد سوبر.واعتبروا الأنماط المهنية تنقسم إلى ستة أقسام وهي :النمط العقلي ويناسبه من المهن كمثال مهن المختبرات والنمط الاجتماعي ويناسبه من المهن كمثال مهن التربية ورعاية الطفولة النمط الواقعي ويناسبه من المهن كمثال المهن الميكانيكية والتكنولوجية وغالبا ما يكون هذا النمط عدوانيا والنمط الفني و يناسبه من المهن مهن الفن بوجه عام والنمط التقليدي ويناسبه من المهن المحاسبة والسكرتارية وغيرها وأخيرا النمط المغامر ويناسبه من المهن القيادة والإدارة والتجارة والسياحة والمحاماة ... ويمتاز بقدرته على إقناع الآخر وبالمهارة اللغوية ويفضل المهام الاجتماعية الغامضة والمعقدة ويكره استعمال لغة محددة والأشغال التي تتطلب فترة طويلة من الجهد الذهني كما يمتاز بحب السيطرة والمغامرة والعدوانية...
[8] مسالة شبيهة باختبارات التعلم القانوني والولوج إلى أسلاك المحاماة بأمريكا وهي أيضا لاتبتعد كثيرا عن نظرية التعلم الاجتماعي لروتر وجليان بي راجع نظريات التعلم دراسة مرجع سابق ص 204 و 216
[9] للمزيد راجع كتاب علم الإجرام للدكتور سامي النصراوي ط 1987ص95
[10] قوله صلى الله علي وسلم:" الكيس من أدان نفسه ". والكيس هنا بمعنى العاقل .حديث مشهور بين الجمهور. وقال أيضا :" قوام المرء عقله’ولا دين لمن لا عقل له." صدق رسول الله الحديث مشهور.وقال سهل بن هارون :"العقل رائد الروح ’والعلم رائد العقل ’ والبيان ترجمان العلم ".
[11] يقول جهم بن صفوان في هذا الصد :"إن الإنسان لا يقدر على شيء يوصف بالاستطاعة وإنما هو مجبور على أفعاله لا قدرة له ولا إرادة ولا اختيار وإنما يخلق الله الأفعال فيه كما يخلق سائر الجمادات وتنسب إليه الأفعال مجازا كما تنسب للجمادات إذ يقال أثمرت الشجرة وجرى الماء وتحرك الحجر وطلعت الشمس وغربت و تغيمت السماء وأمطرت والثواب والعقاب جبر كما أن الأفعال كلها جبر " راجع سامي النصراوي في النظرية العامة للقانون الجنائي مرجع سابق ص 26 .
[12] التعلم بالمثير والاستجابة نظريات التعلم مرجع سابق ص29
ويقول رويتر في هذا الصدد :"إنها نظرية تعلم اجتماعي لأنها تؤكد على الحقيقة القائلة أن أشكال السلوك الأساسية أو الرئيسية يجري تعلمها في المواقف الاجتماعية وهي تلتحم بصورة لا فكاك فيها مع الحاجات التي يتطلب إرضاؤها توسط أشخاص آخرين "ومعناه يقول صاحب كتاب نظريات التعلم أن الفرد يطور القدرة على اقتفاء اثر المكافئة وتجنب العقاب في سياق اجتماعي واسع أو التوسط بين الأشخاص .كتاب نظرية التعلم مرجع سابق ص207
[13] يقول روسو في مقدمة هذا الكتاب : "ولد الإنسان حرا إلا انه مكبل في كل مكان بالأغلال على ذلك النحو يتصور نفسه سيدا أكثر من الذي لا يعدو أن يكون أكثر عبودية فكيف جرى هذا التغيير؟ أجهل ذلك وما الذي يمكنه أن يجعله أكثر شرعيا؟ اعتقد أني استطيع حل هذه المسالة ."جان جاك روسو في العقد الاجتماعي ترجمة ذوقان قرقوط ص 35
[14] يقول كلسن في هدا الصد :" إن القواعد القانونية لا يمكن أن تختلف تبعا لنوع العلاقة التي تنظمها أو تبعا لصفة الأفراد الداخلين في تلك العلاقة وإنما تختلف باختلاف الأحكام التي تتضمنها والتي يرتبها القانون استقلالا عن إرادة أي طرف ملزما بها ..." مصطفى قلوش مرجع سابق ص 9
[15] كالقانون الألماني الذي ينص على :"يعد تاجرا كل شخص اتخذ له حرفة من تعاطي أعمال الإنتاج أو التداول أو المضاربة أو التوسط فيما عدا الحالات المنصوص عليها في القانون " والقانون التونسي الذي يذهب إلى :" يعد تاجرا كل من يباشر على وجه الاحتراف " والقانون الكويتي والفرنسي ...
[16][16] الباب الرابع من ظ 20/10/2008 المتعلق بتنفيذ القانون رقم 28/08 المنظم لمهنة المحاماة بالمغرب .والباب الثاني من القانونرقم 17 لسنة 1983 المتعلق بتنظيم مهنة المحاماة بمصر...
[17] القانون 28/2008.
[18] المادة الثانية من القانون رقم 09/2008 المنظم للشركات المدنية لمهنة المحاماة بالمغرب .
[19] يسير على هذا النحو الشركات المدنية والتعاونيات المهدية لمهنة المحاماة بأمريكا وانجلترا وفرنسا وكثير من الدول العظمى كروسيا واليابان كمثال وهي شركات تنافس في أسهمها الشركات التجارية ذاتها ولا يمكن أن يكون شريكا فيها أو يقتني أسهمها إلا من طرف من كان محاميا وفق القانون المعمول به في هذا الشأن.
.