English French German Spain Italian Dutch Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

موقع الأستاذ حسن فيلالي
رحاب المحاماة الجديد

البحث الاول

 

دور المحاماة في تنظيم المجتمع

وتحقيق العدالة

 

المقدمة:

لا ينكر أحد ما لمرفق العدالة من أهمية داخل المجتمع وماله من تأثير عميق على مختلف أنظمة الحكم وفي توجيهها نحو أرقى أشكال هذه الأنظمة، لا سيما في الدول والمجتمعات التي تساير المواثيق الدولية وثقافة حقوق الإنسان من أجل تحقيق مجتمعات ديمقراطية يطغى عليها مبدأ المساواة وسيادة القانون.

كما لا ينكر أحد ما للقانون من أهمية في ضمان وتحقيق عدالة منصفة بين مختلف شرائح المجتمع، إذ يعتبر الأدوات التي بواسطتها يمكن العدل بين الناس وإنصافهم دون تحيز أو شطط.

ويعتبر القضاة والمحامون من أهم رجالات هذا المرفق على اعتبار أن القضاة هم من يتولى إصدار الأحكام في النوازل التي تعرض عليهم والمحامين هم من يمهد لإصدار هذه الأحكام بمقالاتهم ومذكراتهم ومرافعاتهم الشفوية.

ولئن كان القضاة يحتلون مركز الصدارة في مرفق العدالة، فإن المحامون لا يقلون عنهم أهمية في هذا الشأن لما لهم من كفاءات علمية متجدرة ولما لهم من أخلاقيات متأصلة من مذاهب اجتماعية وسياسية متجدرة من أصول فلسفية ودينية عريقة، مكنتهم من بلورة ثقافاتهم حول مذاهب فقهية وقانونية تتمشى وواقع مجتمعاتهم بمختلف شرائحها دون إعارة أي اعتبار للفوارق العرقية والقومية والجنسية والعنصرية وغيرها متشبثين بذلك بأحسن ما ينتقونه لأنفسهم من مثل عليا أصبح من الضروري تكريسها داخل مهنتهم مساهمين بذلك في تحقيق المحاكمة العادلة والمنصفة لمختلف شرائح المجتمع.

ولئن كان القول بأن القضاة والمحامين وجهان لعملة واحدة داخل مرفق العدالة قول يصعب التسليم به عبر مختلف دول المعمور بما في ذلك المغرب، وذلك بسبب الاختلاف الذي يظهر على واجهة المبادئ والقواعد المنظمة لكل من القطاعين، فإن مع ذلك يبقى محدد هذا الاختلاف ضئيل بالمقارنة مع نقط التشابه والتلازم بينهما ومع المبادئ التي يقوم عليها كل منهما وكذلك مع الهدف المتوخى منهما معا والذي هو إحقاق الحق وإعادة الأمور إلى نصابها من أجل تحقيق نظام عادل ومنصف لمرفق العدالة.

وإذا كان المشرع المغربي يعرف المحاماة بأنها مهنة حرة مستقلة تساعد القضاء في تحقيق العدالة، والمحامون جزء من أسرة القضاء وجعل في المادة الثانية من نفس القانون ممارسة مهنة المحاماة حكرا على المحامين (ظ 96.10.14)، فإن الواقع يفرض علينا إعطاءها تعريفا أدق وأوسع من هذا التعريف، وذلك بالنظر إلى الأهداف المتوخاة منها وإلى الشروط المطلوب توافرها في رجالها والراغبين في الولوج إليها، إذ أن من التشريعات المقارنة من ذهب إلى إعطاءها تعريفا أوسع وأدق من الذي أعطاه لها المشرع المغربي، ومن جملة هذه التشريعات القانون المصري رقم 17 لسنة 1983 الذي عرفها "بأنها مهنة حرة تشارك السلطة القضائية في تحقيق العدالة وفي تأكيد سيادة القانون وفي كفالة حق الدفاع..." فإنه مع ذلك في رأيي يمكن بلورة تعريف لمهنة المحاماة موجز وأكثر شمولية من غيره ومستنبط من الهدف الذي من أجله استلزمت المواثيق والأنظمة الدولية ومختلف القوانين الوضعية مبادئ وقواعد خاصة لتنظيم مهنة المحاماة وتمييزها عن غيرها من الحرف المنافسة لها كوكلاء الخصومة والوسطاء والسماسرة وغيرهم.

وإذا كانت هذه المواثيق والأنظمة تؤكد على ضرورة انتقاء أحسن المرشحين لمهنة المحاماة وتمكينهم من القبول فيها وإزالة كل العوائق التي تحول دون ولوجهم إليها ومن جملتها تحليهم بالأخلاق الحميدة ومبادئ المثل العليا وتوفرهم على كفاءات علمية قانونية تمكنهم من توصيل خدماتهم إلى الجمهور بمختلف مستوياتهم، فإنه بات من الضروري أن يكون الهدف من مهنة المحاماة هو تحقيق مجتمع يسوده العدل والاستقرار والطمأنينة رقيا به نحو المجتمع الفاضل الذي لطالما ناشده المذهب الجماعي وسارت على ركبه المذاهب الفلسفية الأخرى بما فيها المذهب الفردي عندما أكد أنه من مجموع المصالح الفردية يمكن تحقيق المصالح الجماعية بمعنى أن المصلحة العامة تتحقق من وراء احترام المصلحة الخاصة للأفراد، ومنه انبثق ما يسمى بمبدأ حرية العمل والليبيرالية الاقتصادية والسياسية وبالتالي الاجتماعية، وهكذا فإن التعريف المناسب لمهنة المحاماة في رأيي هو أن تكون:"المحاماة مهنة حرة ومستقلة ينظمها القانون كوسيلة لتحقيق نظام للقضاء عادل ومنصف مثلها في ذلك مثل القضاء وتشارك في تنظيم المجتمع"، وإذا كانت مهنة المحاماة بهذا المفهوم تعتبر وسيلة من وسائل تحقيق العدل بين الناس، فإن الإشكالية التي تطرح بصدد هذا الموضوع هي: ما هو دور المحاماة داخل المجتمع وداخل مرفق العدالة حتى يمكن اعتبارها وسيلة من وسائل تنظيم المجتمع وتحقيق العدل؟

وللإجابة عن هذا السؤال فإنه لا بد من تقسيم هذا الموضوع إلى فكرتين أساسيتين أولهما تتناول بالمناقشة والتحليل مهام مهنة المحاماة، والثانية دور مهنة المحاماة في تنظيم المجتمع وداخل مرفق العدالة. إلا أنه قبل الشروع في هذه المناقشة يستحسن إعطاء نبدة موجزة وبسيطة عن تاريخ مهنة المحاماة في المغرب.

تاريخ مهنة المحاماة في المغرب

ويمكن تقسيم المراحل التي مر منها تاريخ مهنة المحاماة بالمغرب إلى ثلاث مراحل أساسية ومعروفة وهي مرحلة ما قبل الحماية ومرحلة الحماية ومرحلة ما بعد الحماية أو الاستقلال، وفي كل مرحلة من هذه المراحل عرفت مهنة المحاماة تنظيما خاصا يختلف عن الآخر. وهكذا فإنه في مرحلة ما قبل الحماية كان المغرب باعتباره بلدا إسلاميا يخضع في جميع مجالاته إلى قواعد الشريعة الإسلامية، بحيث آنذاك لم تكن البلاد تعرف أي نوع من أنواع القواعد الوضعية على الإطلاق، وكان القضاء يمارس فيه على الشاكلة التي كان يسير عليها القضاء في الإسلام بوجه عام، وكان من المبادئ الإسلامية المعروفة على هذا المستوى أن صنف فقهاء الشريعة الإسلامية من جملة أبوابهم الفقهية باب خاص بالوكالة. وتعريفها لديهم هو أنها تمثيل الخصوم أمام القضاء وإعطائهم فتاوى. إلا أن الوكالة بهذا المفهوم تختلف عن وكالة  الخصومة في أنها كانت تسند إلى أهل الثقة بها، والمشهور عند الجمهور في هذا الباب أن الثقة يقصد بها الإلمام بقواعد الأحكام الشرعية، هذه الصفة كانت لا تتوفر آنذاك إلا لمن كان حافظا للقرآن الكريم وعالما بالسنة النبوية الشريفة وكان معروفا بعدله. أما وكالة الخصومة فلم تظهر إلا بعد أن توسع فقهاء الشريعة الإسلامية في فقه الوكالة واستنبطوا من أحكامها بابا سموه باب وكالة الخصومة.

ويختلف باب الوكالة عن باب وكالة الخصومة، في أن الأول يتكون من شقين أولها تمثيل الخصوم أمام القضاء والثاني إعطاء الفتاوى للخصوم بعد صدور الأحكام عليهم، أما الثاني فليس له إلا شق واحد ويتمثل في تمثيل الخصوم أمام القضاء وينتهي بصدور الأحكام عليهم أو لفائدتهم، وكذلك يختلف باب الوكالة عن باب وكالة الخصومة في الفقه الإسلامي من حيث أن الأول ينقسم إلى نوعين وكالة اختيارية ووكالة انتداب، بينما الثاني لا يمكن تصنيفه إلا إلى وكالة الخصومة الاختيارية فقط.

كذلك يختلف باب الوكالة في الفقه الإسلامي عن باب وكالة الخصومة في أن الأول لا يمكن أن يعهد به إلا إلى أهل الثقة، أما الثاني فلا يناط به هذا الشرط.

أما أوجه الشبه بينهما فتتمثل في مسألتين أولهما تقاضي عمولة عن كل منهما والثاني تمثيل الخصوم أمام القضاء، ومن هذا المنطلق فإنه يمكن القول بأن عقد الوكالة في المغرب إبان مرحلة ما قبل الحماية، كان يقوم مقام مهنة المحماة في الوقت الراهن وذلك لكون المحاماة هي تمثيل الخصوم أمام القضاء وإعطائهم النصيحة والاستشارة القانونية المناسبة لوضعياتهم، وكذلك لأن مهنة المحاماة لا يمارس مهامها إلا من توافرت لديه الملك القانونية المناسبة وتحلى بأخلاق حميدة وكانت لديه القدرة على مسايرة المثل العليا، وهو ما يقصد به أهل الثقة في عقد الوكالة. أما وكالة الخصومة فتختلف عن مهنة المحاماة لاختلافها عن عقد الوكالة.

تميزت مرحلة الحماية بخضوع مختلف القطاعات المغربية بما في ذلك مرفق القضاء إلى الهيمنة الإمبريالية الفرنسية التي بمجرد دخولها إلى المغرب ألغت كل القواعد التي كان معمولا بها بما في ذلك عقد الوكالة المتحدث عنه، وأحلت مكانه مهنة المحاماة وسنت لها قواعد وضعية تنظمها وتبين كيفية ممارستها ومن جملة هذه القواعد ظهير 8 دجنبر 1913، وتميزت أحكام هذا الظهير بحرمان المواطن المغربي من حقه في ولوج مهنة المحاماة وفي التعبير بصراحة عن عدم استقلالية المحامي عن سلطة القضاء، وكانت تنص على وجوب تعيين النقيب من طرف المحكمة كما أن المقتضيات التأديبية كانت من اختصاص القاضي، ثم تلاه بعد ذلك ظ 10/01/1924، وقد جاء هذا الظهير كنتيجة حتمية لوضعية مهنة المحاماة في ظل ظ 1913 هذه النتيجة التي ترتب عنها مخاض تمثل في تحركات المحامين آنذاك، هذا المخاض الذي لم يسفر بدوره على مهنة مستقلة فبالأخرى أن يحقق حصانة للدفاع كما كانت منشودة من خلال مشروعه. إلا أن ما يميزه هو أنه جاء قانونا مستقلا لتنظيم مهنة المحاماة إذا كان قبل صدوره وفي ظل ظ 1913 لا تعرف مهنة المحاماة أي قانون منظم لها إلا بعض النصوص المنزوية في قانون المسطرة المدنية وهي الفصول 34 إلى 44 والفصل 47 والمتعلقة بباب  مساعد القضاء.

أما مرحلة الاستقلال فقد عرفت بدورها صدور عدة ظهائر منظمة لمهنة المحاماة ومنها ظهير 18/05/1959 والملاحظ أن هذا الظهير سار على نهج الظهائر السابقة عليه ولم يغير من الأحكام المتعلقة باستقلال المحاماة كما أنه لم يغير من تلك المتعلقة لحصانة الدفاع. إلا أن الجديد الذي أتى به هو اشتراطه الجنسية المغربية في كل الراغبين في ولوج مهنة المحاماة إلا من كان من بلد أجنبي تربطه مع المغرب اتفاقيات دولية خاصة، كذلك اشترط في كل مرشح لمنصب النقيب أن يكون مغربيا وكذلك بالنسبة لأغلبية أعضاء مجلس الهيئة. وبعد هذا الظهير صدر ظهير المغربة والتوحيد سنة 1965، وعرف بمقتضاه قطاع العدالة شبه ثورة حولته من قضاء ممزق إلى قضاء موحد ونص على اعتبار اللغة العربية لغة العمل في كل محاكم المغرب بكل مكوناتها وبما فيها المحاماة. وباستثناء هذه الميزة لم يأتي بدوره بأي جديد.

وبتاريخ 28/09/1974 صدر ظهير شريف بمثابة قانون للمسطرة المدنية كان له أثره على مهنة المحاماة، وقد عرفت مهنة المحاماة على إثر هذا الظهير عدة تضررات تمثلت أساسا في تقليص دور الدفاع أمام المحاكم وكان له أثره السيء كذلك على مبدأ حرية الدفاع. ثم تلاه بعد ذلك ظهير 1977 وعرف هذا الظهير قواعد تشريعية تحفظ كرامة المحامي وقواعد أخرى تناولت بالتنظيم أحكام ومبادئ حصانة المحامي إلخ. وبعده جاء ظهير 1979 الذي زاد من تقوية مبدأ حرية الدفاع وحصانة المحامي واستقلاله، وبعد هذا الظهير صدر ظهير بمثابة قانون لمهنة المحاماة وهو القانون المنظم حاليا والصادر بتاريخ 10/09/1993 المعدل والمتمم بظهير 14/10/96.

ومن خلال هذا السرد البسيط لأهم المراحل التي مر منها تاريخ مهنة المحاماة بالمغرب يمكن القول أن مهنة المحاماة في المغرب مهنة عريقة تستمد خدورها من حضارات مختلفة ومتجدرة لا سيما إذا تطرقنا إليها بسعة صدر خلال الفترة ما قبل الإسلام التي لم نتحدث عنها في هذا العرض وهي الفترة التي عرف فيها المغرب حضارات لها أصلها في التاريخ مثل الحضارة الرومانية التي بدورها عرفت مهنة المحاماة وعرفت فيها مهنة المحاماة تطورات مختلفة من مرحلة الصديق إلى مرحلة الخطيب إلى مرحلة لأدفوكاتو وكذلك عرفت الحضارة الفينيقية التي لم تخل بدورها من هذا التنظيم في مرحلة المجتمع الإسلامي، يمكن في رأيي القول بأن مهنة المحاماة التي كانت تعرف آنذاك بالوكالة عرفت قمة تنظيمها وازدهارها لأن هذه الفترة ومنذ بداية القرن الثاني الهجري وإلى عهد الانحطاط وقفل باب الاجتهاد عرفت ازدهارا ونضجا على مختلف المستويات بما في ذلك القضاء والوكالة. إلا أن التدبدب الذي يلحظ حاليا على مهنة المحاماة وتنظيماتها يمكن القول أن منشأه يعود إلى مرحلة الحماية والسنوات الأولى من عهد الاستقلال، وأنه منذ صدور ظهير 1974 إلى الآن بدأت مهنة المحاماة تسترجع بعض مكانتها داخل مرفق القضاء والمجتمع ككل وذلك راجع إلى تكثيف الجهود وتعدد المناهل التي تستساغ منها القاعدة المنظمة لقطاع المحاماة بما فيها مناهل الشريعة الإسلامية. إذ أصبحت المحاماة في ظل القوانين الحالية تجمع بين الخطابة والترافع والفتوى والاستشارة كل هذه خاصيات مستوحاة من الأنظمة السابقة ومتمشية مع مبدأ الجمع بين الأصالة والحداثة الذي تسير عليه معظم الغرف البرلمانية والاستشارية المغربية الحالية. إلا أن هذا ليس معناه أن تنظيم مهنة المحاماة قد وصل إلى أوجه أو إلى الغاية المرجوة منه، ولكن لا زالت هناك كثير من الثغرات التي تعوق من الإنتاج والتنظيم الأمثل لمهنة المحاماة ولا زالت هناك كثير من الجوانب التي تؤدي إلى عدم التمييز بين مهنة المحاماة وغيرها من المهن الأخرى، كما يتجلى ذلك واضحا من خلال القرار الصادر عن المجلس الأعلى بغرفه مجتمعة بتاريخ 22/05/2006، الذي اعتبر فيه مهنة المحاماة مهنة متساوية مع مهنة وكلاء الخصومة التي سبق القول عنها أنها تختلف عن مهنة الوكالة في الفقه الإسلامي ولا يمكن أن ترقى وكالة الخصومة إلى الوكالة في الفقه الإسلامي لأن باب الوكالة في الفقه الإسلامي أوسع وأشمل من باب وكالة الخصومة وذلك على غرار القاعدة التي تقول إن الشريعة الإسلامية أعم من الفقه الإسلامي والفقه الإسلامي ليس هو الشريعة الإسلامية، ويختلف عنها في أن الشريعة الإسلامية هي ما أنزل على "محمد صلى الله عليه وسلم" وحيا في صورة نصوص قرآنية كريمة وما ألهم به عليه السلام من سنن نبوية شريفة. وإن الشريعة الإسلامية تنظم علاقة الإنسان مع ربه ومع أخيه الإنسان. أما الفقه الإسلامي فلا ينظم إلا علاقة الإنسان المسلم بغيره دون أن ينصرف إلى العبادات أو بمعنى آخر أن الشريعة الإسلامية هي مجموعة الأحكام التشريعية التي تنظم مجال العبادات والمعاملات معا، أما الفقه الإسلامي فلا ينظم إلا مجال المعاملات فقط.

وبعد هذه القراءة البسيطة في تاريخ مهنة المحاماة بالمغرب فإن الوقت قد آن للوفاء بما سبق الوعد به والشروع في مناقشة الفكرة الأولى من هذا الموضوع والتي هي مهام مهنة المحاماة.

مهام مهنة المحاماة

إن الكلام في موضوع مهام مهنة المحاماة أو ما يطلق عليه عموما بمهام الدفاع، يستدعي النظر إلى مهنة المحاماة من خلال جانبها الطبيعي أو الغرائزي أو الإنساني بوجه عام وكذلك من جانبها التنظيمي أو القانوني، وذلك على اعتبار أن المحاماة مهنة ورسالة ووظيفة.

فهي مهنة لأنها علاقة تقوم بين المحامي وزبونه على أسس من الشرف والكرامة والمروءة والأخلاق الإنسانية النبيلة التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان لتكوين مجتمع تسوده روابط وعلاقات ترسخ من أسسه وتقوي فيه روح التضامن والأخلاق، وقد تبث في التاريخ أن مهنة المحاماة مرت عبر عصوره من مراحل مختلفة منها تلك التي كان يعرف فيها المحامي باسم الصديق، ثم تلك التي أصبح يعرف فيها باسم الخطيب ثم بعدها تلك التي أصبح يعرف فيها باسم الخطيب الصديق وكل هذه عبارات مستوحاة من نوع العلاقة التي تربط بين المحامي وزبونه وتجعل منها مهنة حرة ومستقلة يعتمد عليها الخصوم أمام المحاكم وفي أوقات الشدائد والكروب وقد تبث في التاريخ أيضا أن العرب في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام، كانت تعرف هذا النمط من التآزر والتضامن بين أفراد المجتمع إذ أن من أعرافهم آنذاك ما كان يعرف بالأعراف القبلية وكان مضمونها يقوم على عدة مبادئ وأقوال منها "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" وهذه المقولة أو هذا المبدأ كان يلجأ إليه الأعراب آنذاك عندما تظهر لديهم جريمة ولا يعرفون مرتكبها فتجتمع القبائل لحل لغزها وعندما يشتد النقاش بينهم حولها ويخشى كل منهم من أن تنسب هذه الجريمة لابن قبيلته، واستمر العمل بهذا المبدأ إلى عهد الإسلام وقد تبث أنه جاء من زمرة الأحاديث النبوية الشريفة، إلا أن المقصود به عند النبي "صلى الله عليه وسلم" قد يخالف المراد به عن الأعراب.

وقد تبث أيضا عن العرب قبل الإسلام بعد انتهاء حرب الفجار أن تأسس في دار "عبد الله بن جذعان التميمي" حلف كان أعضاؤه هم بنوا هاشم وبنوا المطلب أبناء عبد مناف وبنوا أسد ابن عبد العزى وبنوا زهرة ابن كلاب وبنوا تيم بن مرة، وتحالفوا فيما بينهم على تكوين حلف أي حزب لا يجد بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم إلا قاموا حتى ترد إليه مظلمته وقد حضر هذا الحلف "رسول الله صلى الله عليه وسلم" وهو صبي ولما نزل عليه الوحي وشرفه الله بالرسالة قال عليه الصلاة والسلام "لقد شهدت مع عمومتي حلف في دار عبد الله بن جذعان ما أحب لي فيه حمر النعم (أي رد العدوان وإعادة الحق إلى نصابه) ولو دعيت به في الإسلام لأجبت".

أما في الوقت الحاضر فإن علاقة المحامي بزبونه وإن كانت منظمة بمقتضى قواعد قانونية تجعل منها مهنة فإنها مع ذلك تقوم على جانب إنساني غرائزي وطبيعي في الإنسان مرده إلى روح الفطرة الاجتماعية فيه، وإلى مبدأ التكافل والتضامن لنصرة المظلوم وإلى الرغبة في العيش المنظم لذلك فإنها مهنة ولكنها ليست ككل المهن، فهي من أشرف المهن وأجلها وقد تكلم عنها كثير من المفكرون ورجال السياسية قديما وحديثا وتمنى لو كان محاميا منهم "فولتير" والمغفور له "الحسن الثاني" طيب الله تراه عندما سئل مرة: "لو لم تكونوا ملكا فماذا تريدون أن تكونوا؟ "فأجابه أن أكون محاميا" وارد في المجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية العدد 25 سنة 1991 ص: 28.

وهي رسالة لأنها قديمة قدم الإنسان والمجتمع، فلا يمكن الكلام عن المجتمع بدون إنسان ولا يمكن الكلام عن الإنسان بدون الكلام عن المبادئ والأخلاق والمثل التي جاءت مهنة المحاماة لتكريسها في أجل مظاهرها والذي هو نصرة المظلوم والدفاع عن تنظيم المجتمع.

فالإنسان أناني بطبعه وعاجز عن العيش بمفرده ومن تم كان لا بد له من تكوين علاقات بغيره من الإنسان وعلاقات بالجماعة التي يعيش بينها.

ولما كانت هذه العلاقات لا تقوم وتستقر إلا بوضع نظام أو ضابط يحكمها وينأى بها عن الأنانية التي تميز الكائن الحي عموما وعن النزوات التي غالبا ما ينشئ عنها الصراع والتنافس بين بني البشر، فإن المحاماة رسالة تحمل للإنسان سبل الوصول إلى هذه الضوابط من أجل الحل السليم لكل صراع أو نزاع ينشئ بين الإنسان والإنسان قد ينشئ عنه تفكيك المجتمع وذلك لما لأهلها من دراية علمية بمختلف فروع القانون والمساطر المنظمة له ولما لهم من ثقافة في مختلف مناحي الحياة جعلت منهم الأداة التي يمكن باستعمالها الوصول إلى العدل، فهي بهذا المعنى رسالة من أجل الإنسانية ومن أجل المجتمع ومن أجل القانون ومن أجل العدل ومن أجل الحضارة.

ولما كان القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة ولا يمكن احترام القانون إلا بجهاز يكفل له هذا الاحترام ولما كان لمرفق العدالة دوره في تطبيق وتكريس محتويات القاعدة القانونية، فإن المحاماة كان لها دورها في هذا الاحترام وفي هذا التطبيق عندما يلجأ إليها الجمهور، إما للاستشارة وإما للتمثيل أمام القضاء أثناء الخصومة. والمحامون خلال مزاولتهم لمهامهم إنما يرغبون بذلك في تنظيم المجتمع وتفعيل النصوص القانونية من أجل تحقيق عدالة يحس بها الجميع وتساهم في بناء حضارة تقوم على مبادئ من الإنسانية والقانون والعدالة، فأية حضارة للشعوب إذا لم تكن لديها عدالة وأية عدالة إذا لم تكن لديها محاماة، فالمحاماة بهذا التعبير هي أداة العدالة قبل أن يكون القضاء أداة لها تمشيا مع ما انتهى إليه الأستاذ "إدريس فجر" وهو قاض من قضاة المغرب في عرضه خلال ندوة المهن القانونية الحرة أيام 23-24 نوفمبر 1990 وهو منشور بالمجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية العدد 25 السنة 1991 الصفحة 51 من أن "العمل القضائي الجيد صانعه القاضي ومهندسه المحامي" إذ أن عمل المهندس عادة ما يكون سابقا لعمل الصانع أو البناء. ولعل هذا الرأي قد يستدعي بعض التساؤل حول ما إذا كانت مهنة المحاماة سابقة للقضاء من حيث النشأة؟ إلا أن الجواب على هذا السؤال يقتضي تدخل ذوي الخبرات والكفاءات العليا في هذا الميدان وفي مجال التأريخ. ومع ذلك فإنه يمكن التشكيك في هذه المسألة لا سيما إذا رجعنا إلى عصر البريطورات وهم أول قضاة ظهروا في التاريخ كانت مهمتهم الحكم بين الناس فيما يشجر بينهم ولكن هذا الحكم لم يكن بالمجان وإنما كان بمقابل وذلك على غرار ما عليه الحال في مجال التحكيم حاليا وكذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أن مهنة المحاماة تقوم أساسا على إعطاء الاستشارة وتمثيل الخصوم عند نشوء النزاع بينهم. ومن أهدافها توفير الخدمات للجمهور بالمجان في بعض الحالات لذلك فمن المعتقد أن تكون مهمة الإفتاء هذه قد تحولت إلى إصدار أحكام وتطورت معه مهمة الحامي إلى حكم ثم إلى بريطور ثم إلى قاضي بدون مقابل لذا فإنه في اعتقادي مسألة ظهور المحاماة قبل القضاء مسألة واردة ويمكن تحقيقها.

والمحاماة وظيفة لأنها تساعد وتساهم وتشارك في تحقيق العدل ولأنها وسيلة لتحقيق العدل وقد عرفها المشرع المغربي بأنها مهنة تساعد القضاء ولعل عبارة مهنة الواردة في هذا المقام جاءت لتؤكد استقلال المحامين وحريتهم أثناء مزاولتهم لمهامهم لقول النص "المحاماة مهنة حرة ومستقلة تساعد القضاء" وكذلك لنوعية العلاقة التي تجمع بين المحامي وزبونه والتي سبق الكلام عنها في معرض هذا الموضوع.

وقد اعتبرها مجلس الدولة الفرنسي سنة 1948 مرفقا عاما تخلت عنه الدولة لأفراده، وكذلك قرار محكمة النقض المصرية الذي سار على هذا النسق واعتبرها ترعى الصالح العام وتحقق الصالح الخاص. وهذا غير بعيد عما تبنته المذاهب الفردية والمذهب الليبرالي منه الذي اعتبر من مجموع المصالح الخاصة تتحقق المصالح العامة وأقر مبدأ حرية العمل.

وهي وظيفة لأنها ترعى الصالح العام إلى جانب الصالح الخاص الذي يجعل منها مهنة وهي وظيفة كذلك لأنها جزء من أسرة القضاء والقضاء مرفق عام والجزء تابع للكل في أحكامه ومبادئه وقواعده.

وكون مهنة المحاماة مهنة حرة ومستقلة لا ينأى بها عن اعتبارها جزء من أسرة القضاء وذلك بصريح المادة الأولى من ظ 14/10/96 ولا يحول دون اعتبارها وظيفة من وظائف القضاء شأنها في ذلك شأن قضاء النيابة العامة، ورجالها يعتبرون قبل أن يكونوا محامون قضاة وجب أن يكون لهم ما لرجال القضاء وبشقيه الجالس والواقف من حقوق ومن امتيازات نظرا لما في ذلك من اعتراف بنبل شرف مهنتهم وبدورها في المجتمع كرسالة تسهر عبر القرون من أجل تحقيق نظام للقضاء عادل ومنصف، وتسعى إلى تحقيق مجتمع منظم ومتحضر.

واعتبارها وظيفة لا يحد من اعتبارها مهنة فهي توفيق بين حقين متضاربين أولهما حق المجتمع والقانون وثانيهما حق المتقاضي وهذا دور قلما يوجد من بين صانعي القرار القضائي من يقوم به بل ولا يوجد من يقوم به داخل المجتمع ككل. إلا أن المحاماة تقوم بهذا الدور من بابه الأوسع وهو ما يجعل منها رسالة عبر العصور وعبر الزمان. ولا ينكر أحد ما للتوفيق بين المصلحتين العامة والخاصة من أهمية في تحقيق التوازن داخل المجتمع، ما تبدله مختلف الدول من مجهودات من أجل الوصول إلى هذا الهدف، وما تضاربت الإيديولوجيات والتيارات الفلسفية والسياسية عبر الزمن إلا من أجل تحقيق هذه الغاية.

فالمحاماة إذن بهذا الاعتبار وظيفة ومهنة ورسالة ترقى بالمجتمع إلى مصاف الرقي والنبل والحضارة وتجعل من علاقات أفراده علاقات مثالية ومنظمة، وذلك من خلال مساعدتها للقضاء ومشاركتها لرجاله في إدارة مرفق العدالة، ورجالها بهذا المنظور يقومون من خلال سلوكهم المهني المتخلق بمهام مستقاة من مختلف مناحي الحياة البشرية وليس من مجرد القوانين المنظمة لمهنتهم نظرا لما تزخر به هذه المهنة من أعراف وتقاليد مختلفة ويصعب حصرها، وكذلك لما يستدعيه عملهم وواجبهم الإنساني وتمسكهم بالأخلاق والمثل العليا وهم بهذا الاعتبار لا يقلون أهمية عن صناع القرار القضائي داخل مرفق العدالة وفي اعتبارهم خبراء للخبراء، وفي هذا الاتجاه ذهب الأستاذ "ادريس فجر" في بحثه حول المحاماة ومساعدة القضاء وقد سبق الإشارة إلى مراجعه إلى أن "... في حين أن المحامي باعتباره صاحب مهنة حرة مستقلة فهو يبحث عن الحقيقة بكل الوسائل وتراه يلعب دور ضابط الشرطة أو يتقمص شخصية الخبير وربما يقوم ببعض التداريب...".

وتتجلى مهام المحامي بوجه عام في تمثيله للخصوم أمام القضاء وفي ترافعه لأجل حقوقهم ومصالحهم المشروعة التي تكونت لديه قناعة حولها وهو في ذلك مثله مثل القاضي الذي لا يحكم إلا بناء على ما يروج أمامه من وقائع ومناقشات تمكنه من تكوين قناعته ليصدر بالتالي قراره المستخلص من اقتناعه الوجداني تمشيا مع مبدأ استقلال القضاء، وهو ما يعكس مستوى النزاهة والاستقامة والأخلاق والضمير لدى المحامي بطبيعة الحال، فالمحامي الذي يترافع عن موكله أو يمثله أمام القضاء وهو يعلم في قرارة نفسه أن موكله غير محق في طلبه يكون بذلك قد تجرد من هذه المبادئ وسار بمرفق العدالة نحو القرار الغير الصائب الذي سوف يكون له انعكاسه على العدالة والقضاء وعلى النمط الاجتماعي المرغوب تحقيقه داخل المجتمع، إلا أنه وأمام الأزمة التي تعيشها مهنة المحاماة والتي قيل عنها أنها مجرد أزمة ظرفية وفترة انتقالية، فإن ما يلاحظ هو أن هذه الظرفية قد تفرض على المحامي بصورة قسرية أن لا يراعي في مكتبه ومهنته مثل هذه القواعد والمتعلقة بالنزاهة والاستقلال بالوجه المطلوب، لا سيما وأن هذه الظرفية لها ارتباط بمختلف الالتزامات والأعباء المادية التي تقع على كاهله والتي قيل عنها أنها في السابق كانت تقع على كاهل الدولة عندما كانت تعتبر مهنة المحاماة مرفقا عاما تخصص له جانبا من ميزانيتها، وقبل صدور قرار مجلس الدولة الفرنسي لسنة 1948 والذي كان له انعكاسه طبعا على مهنة المحاماة داخل المغرب لا سيما وأن هذا القرار صادف مرحلة الحماية التي عاشتها مختلف المرافق العامة والخاصة والحرة داخل المغرب. لذا فإن مسألة إصلاح مهنة المحاماة وإعادة صياغة قانون منظم لها يتمشى ومختلف الظرفيات المادية والمعنوية بما في ذلك المجال الضريبي وملف التقاعد والتعويضات الاجتماعية والعائلية مسألة ينبغي أن تفرد لها دراسات ومناقشات معمقة بل وينبغي أن يقعد لها مختلف الفاعلين في مجال القضاء والعدالة ورجال القانون بما فيهم المحامون قصد تأطيرها وإعطاءها الصيغة القانونية الملزمة والكفيلة لحل هذه الإشكالية.

ولا تقف هذه الإشكالية عند الحد المادي بل الظرفية المادية لمهنة المحاماة والتي قد تفرض عليها أحيانا التحلل من بعض مبادئها وبالتالي التأثير على مبدأ العدالة ولكنها تتعداه للمس بمؤسسة الدفاع ككل وتجردها من طبيعتها ورسالتها الإنسانية النبيلة التي ضلت تحملها منذ قرون والتي هي نصرة المظلوم وتحقيق نظام قضائي منصف وعادل ومجتمع منظم تسوده الطمأنينة والاستقرار في مختلف مجالاته ومعاملاته، لذا فإنه من جهة أخرى فإن الحل الأمثل لهذه المشكلة لا يكمن في الإقصاء والتهميش لهذا القطاع أو بالنظر إليه على أنه قطاع غير مجدي داخل المجتمع ومرفق العدالة. ولكن هذا الحل يكمن في مختلف التدابير الوقائية والعلاجية من هذه الأزمة.

كذلك من أبرز صور مهام المحامي تقديم المقالات والمذكرات والمستنتجات لفائدة الخصوم وهو خلال هذه المهام ملزم بالإتقان والإبداع وحسن التصميم وقد قال في هذا الشأن المرحوم الأستاذ "عبد النبي ميكو" "ولأمر ما قيل أن الأحكام الجيدة ليست إلا مرآة تعكس مذكرات المحامين إذ أن القضاة يختارون أجود مذكرات المحامين ويطبقون عليها أحكامهم" المدخل لدراسة القانون الجزء الأول نظرية القانون الطبعة الثانية سنة 1973، المطبعة الملكية الدار البيضاء ص: 154.

ولعله من نافلة القول أن المقصود من هذه المقولة أن القضاة أثناء البث في نازلة معينة فإنهم بالطبع أول ما يراعون في هذا العمل هو ما تقدم به المحامون من مقالات ومذكرات وأن المقصود بقوله انتقاء أحسن المذكرات هو أكثرها توضيحا للحقيقة ومناقشة للوقائع والحجج، وطبعا هذا العمل لن يتأتى للمحامي إلا إذا صاغه في مذكرة مقدمة على أحسن شكل كما لو كان يراعي في ذلك هندامه، وتضمنت محتوى يوصل إلى الحقيقة من منطلقات تعارف عليها الجميع كما لو كان يراعي في ذلك حسن بيانه وليس المقصود هو المذكرات الجميلة من حيث شكلها والفارغة من حيث محتواها، لذا وجب على المحامي أن يراعي في مختلف كتاباته الشكل والمضمون وليس المقصود بالشكل هنا الناحية المسطرية. ولكن المقصود بها في هذا المقام هو الناحية المنهجية التي تقدم بواسطتها المذكرة أو المقال، أما الناحية المسطرية في هذه المناقشة فتعتبر من مضمون المذكرة وموضوعها.

ومن مهام المحامي كذلك تقديم النصيحة والاستشارة للخصوم وهو في ذلك ملزم بالضمير والنزاهة والكرامة والاستقلال،  وقد تبث عند فقهاء الوكالة في الفقه الإسلامي أن اشترطوا فيمن ينتدب لها شرط الثقة، ومعلوم أن الثقة تشمل في هذا الباب العلم بالقواعد الشرعية أولا والعدل والأمانة ثانيا، ويقصد بالعدل عندهم أن لا يكون معروفا بالكذب ولا معروفا بالفسق، أما الأمانة فهي طبعا لها صلة بالمال وهي عكس الخيانة، لذا فإن المحامي أثناء مهامه ملزم بالصدق وحسن الخلق وبالترفع عن كل ما يمس بكرامته واستقلاله كمحام.

كذلك من مهام المحامي تمثيل الأطراف أمام الجهات الإدارية والمجالس التأديبية وهو في ذلك ملزم بما هو ملزم به في باقي مهامه الأخرى من ضمير وكرامة واستقلال ولا يراعي في ذلك إلا ما يفرضه عليه القانون من قيود واستثناءات كوجوب احترام السلطات والهيئة القضائية، هذه الأخيرة التي ترد عليها بدورها قيودا واستثناءات وجب على المحامي إثارتها دون خوف أو تردد وإلا اعتبر قد تجرد من واجب الضمير والكرامة والاستقلال والثقة التي وضعها فيه زبونه. كذلك من مهام المحامي تمثيل الأطراف أمام الجماعات والمؤسسات العمومية والهيآت المهنية دون الإخلال بالمقتضيات المهنية وقسم المهنة لما في ذلك من صيانة لحقوق الأطراف ومصالحهم ولما في ذلك من حسن الحفاظ على  مجموع المبادئ والقواعد المكونة للنظام العام والقمينة بتنظيم المجتمع أحسن تنظيم، فالمحامي بصفته رجل للقانون لا يقف عند حد دوره كرجل للعدالة ولكنه يتعداه بحكم تكوينه وما أهله له القانون إلى المساهمة والعمل على احترام القانون شأنه في ذلك شأن رجل الشارع كالشرطي ورجل السلطة والموظفين والأعوان التابعين لهم والذين عهد إليهم بمهمة حماية القانون والعمل على حسن تنفيذه، ومعلوم أن الشرطة تنقسم عموما إلى نوعين شرطة إدارية وهي التي يأتي دورها قبل وقوع الجرم أو شبه الجرم ومهمتها في هذا الشأن وقائية وشرطة قضائية وهي التي يأتي دورها بعد ارتكاب الجرم أو شبه الجرم ومهمتها والحالة هاته تدبيرية والمحامي بالنظر إلى طبيعة عمله ومهنته التي يهدف من وراءها إلى البحث عن الحقيقة وجمع المعلومات عن كل إخلال بالمقتضيات القانونية قصد إعادة الأمور إلى نصابها وتوقيع الجزاء إما المادي وإما البدني على من كان وراء هذا الإخلال تعتبر مهمته تدبيرية وليست وقائية وهو غالبا ما يرسم خطا تقاطعيا مع ضباط الشرطة القضائية ورجال القضاء عموما أثناء مزاولاتهم لمهامهم. فكلا منهم مهمته تدبيرية ويسعى إلى إرجاع الوضع إلى ما كان عليه قبل الإخلال بالمقتضيات القانونية. ونقطة التقاطع هذه هي نقطة الاشتراك بين مختلف صناع القرار القضائي وهي التي جعلت من مهنة المحاماة مشاركا في أسرة العدالة أو القضاء، وهي بالتالي ما يشكل أسرة القضاء أو أسرة العدالة بوجه عام، إلا أن الإشكالية التي قد تثور بشأن هذه المهام هو أنه إذا كانت مهام المحامي لا تعرف أي إشكال داخل المحاكم باستثناء بعض الجوانب الناذرة جدا و المتعلقة بالحصانة والاستقلال فإن الصعوبة تثور أحيانا خارج المحاكم لا سيما أمام بعض الإدارات والجمعيات والمؤسسات العمومية والهيآت المهنية وبعض المجالس التأديبية وذلك سواء على مستوى الحصانة أو على مستوى الاستقلال أو على مستوى حق المرور، إذ غالبا ما لا تتفهم هذه الجهات سبب تواجد المحامي أمامه وتقدير واجبه كرجل مسؤول أثناء تأديته لمهامه له كرامته وله استقلاله المهني وما يتمتع به من حق في المرور والإطلاع على مختلف الوثائق والمستندات لا سيما السرية منها وفي بعض الأحيان قد لا يسمح له بممارسة مهامه أمامها دون أن تعبئ بالقوانين المنظمة في هذا المجال، وفي رأيي أنه لحل مثل هذه الصعوبات يتعين التذكير بملخص للقواعد المنظمة في هذا المجال على مستند يحوز المحامي نسخة منه للإدلاء بها عند الضرورة مع تضمينها الجزاءات التي يمكن أن تترتب عند الإخلال بمقتضياتها وذلك تسهيلا لعمل المحامي أثناء مزاولته لمهامه وتفاديا لكل ما قد يضر بمصلحة الأطراف والخصوم.

ومن مهام مهنة المحاماة كذلك تقديم جميع الطعون ضد جميع الدعاوى أو المساطر أو الأوامر أو القرارات أو الأحكام الصادرة عن هذه الجهات وذلك تجنبا لكل شطط أو ما يخالف الصواب فيها، ولحسن تطبيق القانون إحقاقا للحق ومقاومة للظلم أو تجنبا لإغفال حججا أو مستندات لم تظهر إلا بعد صدور المقررات والأحكام الأولى وغيرها مثل ما هو عليه الحال في المراجعة أو إعادة النظر، ونظرا لما تحتاج إليه مهنة المحاماة من ثقافات مختلفة وتجارب متنوعة في ميدان القضاء وغيره فقد استثنى المشرع المغربي الطعون التي تقدم أمام المجلس الأعلى واعتبرها من صفة فئة معينة من المحامين دون غيرهم وهم الفئة التي تتوفر على شروط الترافع أمام هذا المجلس كما حددتها المادة 34 من القانون المنظم للمهنة كما تم تتميمها وتعديلها بمقتضى القانون 96/39.

كذلك يعتبر من مهام مهنة المحاماة تقديم كل عرض أو قبوله وإعلان كل إقرار أو رضى ورفع اليد عن كل حجز والقيام بصفة عامة بكل الأعمال لفائدة موكله ولو كانت اعترافا بحق أو تنازلا عنه إلا إذا تعلق الأمر بإنكار خط اليد كما هو الحال في دعوى الزور بنوعيها الأصلي والفرعي أو طلب يمين أو قلبها فإنه في هذه الحالة يشترط المشرع وكالة مكتوبة وكذلك القيام بكل المساطر الغير القضائية أمام كتابة ضبط المحكمة ومختلف مكاتبها وكل الجهات المعنية ولو كانت خارج المحكمة.

ومن مهام مهنة المحاماة ولإلمام رجالها بميدان العقود والفصول المنظمة له ولدرايتهم بالمجال التشريعي مهمة تحرير العقود العرفية بجميع أنواعها ويذهب المشروع الجديد لمهنة المحاماة المصادق عليه من طرف اللجنة المشتركة بين وزارة العدل وجمعية هيئات المحامين بالمغرب إلى إدخال مهمة التحكيم ضمن مهام مهنة المحاماة.

وإذا كانت هذه هي مهام مهنة المحاماة كما حددها المشرع المغربي في القانون المنظم للمهنة في الفصول من 29 إلى 34 منه، فإن السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان هو هل هذه المهام جاءت على سبيل الحصر أم على سبيل المثال؟ فإذا أخذنا بعين الاعتبار أن مهنة المحاماة تخضع في تنظيمها وممارسة سلوكها إلى القانون المنظم لها، وكذلك إلى أعرافها وتقاليدها وكذلك إلى المبادئ والاتفاقيات الدولية المتعلقة بها فإن الجواب على هذا السؤال طبعا سوف يكون بالنفي لأن كل الأعراف والتقاليد المهنية والمبادئ والاتفاقيات الدولية المتحدث عنها تمنح المحامي روحا مهنية تتمشى والمبادئ الإنسانية ومختلف مواثيق حقوق الإنسان ومبادئ العدالة والإنصاف، وهو الأمر الذي قد يفرض عليه القيام بمهام وإن أمكن الاختلاف في طبيعتها، وما إن كانت مهاما سياسية أو مهاما اجتماعية أو مهاما مهنية فإنه مع ذلك يمكن اعتبارها مهاما مهنية إلا أن ما ينبغي استثناؤه من هذه القاعدة وهو الحالة التي يكون فيها للمحامي نشاط مواز لمهنة المحاماة، كما لو كان عضوا أو رئيسا لهيئة سياسية أو اجتماعية معينة أو منظمة أو جمعية يكون لها هدف إما سياسي وإما اجتماعي وإما اقتصادي أو غيره. فإنه في هذه الحالة لا يمكن اعتبار نشاطه هذا من قبيل مهام مهنة المحاماة ولكن يجب أن يلحق بالتنظيم الذي ينتمي إليه وذلك إعمالا لمبدأ التعليل والترجيح. ومهما كان القول فإن مهام مهنة المحاماة كثيرة ومتنوعة ومتداخلة أحيانا بل ومستجدة تساير الواقع والحياة اليومية للإنسان وتستدعي منه الاجتهاد والإبداع لمسايرة واقع القضاء والمجتمع وإن كانت بعض النصوص والمساطر أحيانا تقف حائلا دونه ودون تحقيق هذه الغاية فإنه مع ذلك مجتهد في ميدانه.

وبعد هذه التوطئة المقتضبة عن مهام مهنة المحاماة بصورة كلية فإن الفرصة قد تكون مناسبة للكلام عنها بصورة جزئية ومختصرة تساعد على تعميق النظر إليها وذلك كما يلي:

إن الكلام عن مهام مهنة المحاماة لا يبتعد كثيرا عن الكلام في نطاق المساطر أمام مختلف محاكم المملكة وعن مختلف المساطر المتبعة أمام المجالس التأديبية للإدارات العمومية والجماعات والمؤسسات العمومية والهيآت وغيرها من الجهات الأخرى التي سبق الكلام عنها في نطاق الكلام عن مهام مهنة المحاماة بوجه عام.

ولئن كانت المساطر المتبعة أمام المحاكم والجهات القضائية الأخرى محددة ومعروفة ولو بشكل نسبي فإنها مع ذلك تبقى شبه مبهمة وغير محددة بالنسبة للجهات الأخرى والغير القضائية لا سيما ما تعلق منها بالمجالس التأديبية لكون هذه المجالس غالبا ما تخضع في تكوينها ومساطرها إلى القوانين الداخلية واللوائح والمنشورات المنظمة لها، علما أن محدد هذه الأخيرة كبير جدا لدرجة أن يكون بالإمكان من هذه الجهات ما تخضع في تنظيمها للوائح أو منشورات يومية، ومع ذلك يبقى على عاتق المحامي تتبع هذه القواعد وضرورة الإلمام بها حتى يكون في مستوى المهام التي تقع على عاتقه إذا استدعت الضرورة ذلك.

وبالإضافة إلى هذه الملاحظة فإنه كذلك يمكن القول بأن مهام المحامي وفق هذا الباب لا يمكن حصرها وإن أمكن ذلك فإنه قد يتحقق بصعوبة كبيرة وذلك عندما يتعلق الأمر بمهامه كوكيل لأعمال موكله وتظهر هذه الصعوبة بكثرة المساطر التي يتعين اتباعها وبتنوعها، وكذلك بصعوبة الإلمام بكل هذه المساطر في بعض الحالات خصوصا وأنه من مستلزمات العلم بكل المساطر التي تتوقف عليها مهام المحامي توفره على مكتبة تضم الحد الأقصى منها ولا نقول جميعها، لأن ذلك لن يتأتى مهما كانت المقدورات وفق ما سبق توضيحه، وهنا قد يقف المعوق المادي دون قيام المحامي بكل مهامه على الوجه المطلوب، وهذا ما يؤثر سلبا على مبدأ حسن سير العدالة ودور المحامي في تنظيم المجتمع وتوجيه القضاء، فكما قيل أن المحامي مهندس العمل القضائي فإنه كذلك مهندس في نطاق مهامه الأخرى التي يمارسها عادة خارج النطاق القضائي والمحاكم.

وإن كانت المساطر القضائية عموما معروفة وشبه محددة فإنه يمكن تقسيمها من وجه الاختصاص إلى مساطر مدنية وتشمل الأوامر المبنية على الطلب والمعاينات والمستعجلات، ومسطرة الأمر بالأداء ودعاوى الحيازة وعروض الوفاء والإيداع والأحوال الشخصية والنيابة القانونية والتحجير وبيع منقولات القاصر والبيع القضائي لمنقولات القاصر، والتطليق والتصريحات القضائية المتعلقة بالحالة المدنية وتصحيح وثائقها ووضع الأختام بعد الوفاة والتعرض على وضعها ورفعها والإحصاء وتصفية التركة والقسمة والغيبة وأهلية الدولة للإرث والقضايا الاجتماعية والتصريح وتنازع الاختصاص، وتعرض الغير الخارج عن الخصومة والتحكيم وإجراءات التحقيق المسطرية ومواصلة الدعوى والتنازل والمصاريف القضائية والتعرض ودعوى الزور وتنازع الاختصاص ومخاصمة القضاة وإيداع وقبول الكفالة الشخصية والنقدية وتقديم الحسابات والتنفيذ الجبري للأحكام وحجز المنقولات والعقارات والحجز التحفظي والحجز التنفيذي للمنقولات والعقارات والحجز لدى الغير والحجز الإرتهاني والحجز الاستحقاقي والتوزيع بالمحاصة. وإلى مساطر تجارية وهي الدعاوى المتعلقة بالعقود التجارية، الدعاوى التي تنشأ بين التجار والمتعلقة بأعمالهم التجارية، الدعاوى المتعلقة بالأوراق التجارية، النزاعات الناشئة بين شركاء في شركة تجارية، النزاعات المتعلقة بالأصول التجارية، مستعجلات الأمر بالأداء تنفيذ الأحكام والأوامر وإلى مساطر جنائية وهي: تحريك الدعوى العمومية نيابة عن الخصوم، الدعوى المدنية التابعة، مساطر الاستماع إلى الشهود والخبراء، جلسات التحقيق التزوير إلخ. والمساطر الإدارية، العقود الإدارية، الشطط في استعمال السلطة، القرارات الإدارية إلخ.

كما تنظم هذه المساطر من حيث الطعون إلى مساطر ابتدائية وإلى مساطر استثنائية وإلى مساطر أمام المجلس الأعلى وكذلك بعض المساطر الخاصة كإعادة النظر والمراهنة والحجز لدى الغير إلخ.

وبما أن الكلام في موضوع المساطر بوجه عام وفق عرض البحث في المادة الحقوقية والقضائية يفرد له باب خاص، فإني أرى من المستحسن الرجوع إليه في مواضيعه حتى تكون الفائدة أعمق من التطرق إليها في هذا الموضوع، وعموما فإذا كانت مهام مهنة المحاماة تتسم بهذه الصفات التي أتينا على ذكرها وذات أهمية سواء على مستوى تنظيم المجتمع أو على مستوى توجيه القضاء وعلى مستوى التعريف بالمهنة كذلك. فإن الكلام في نطاقها يعتبر ذو أهمية بالغة وذلك دفاعا عن المؤسسات التي ترافق القضاء بوجه عام في كل حركاته وسكناته وتشرب من ذات مشاربه وتفرح لفرحه وتتألم لألمه مثلها في ذلك مثل البنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، ووجب أن يفرد لهذا الكلام دراسات علمية مدققة لأجل تلقينها على مستويات مختلفة لا سيما وأن مهنة المحاماة بالمغرب على أبواب إنشاء معاهد لتدريب المؤهلين لها، وكذلك لاعتبارها كمادة حقوقية يمكن إدراجها ضمن برامج تعليمية وتدريبية تناسب أهميتها ودورها في تطوير المجتمع، وبناء حضارة مؤسسة على دعائم من العدل والإنصاف والنبل والإنسانية التي هي قوام كل مجتمع وبقاء كل الأمم لقول الشاعر "إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هي ذهبت هم ذهبوا".

وتعتبر مهام مهنة المحاماة العمود الفقري للمهنة ككل إذ بدونها لا تقوم للمهنة قائمة فإذا لقيت هذه المهام السلوك الموافق للغاية منها والتي هي الوصول إلى العدل وإلى الحقيقة فإنها سوف تؤدي هذه الغاية على الوجه الأكمل والأمثل، فسلوك المحامي أثناء مزاولته مهامه لا يقل أهمية عن مهام وأعراف وتقاليد مهنة المحاماة، إذ يعتبر أداة الأداة التي توصل إلى العدل وإلى تنظيم المجتمع. وسلوك المحامي بطبيعة الحال يقوم بدوره على أسس من الأعراف والتقاليد هذه الأخيرة التي تعتبر بمثابة الأرضية التي يقوم عليها سلوك المحامي وكذلك الكساء الذي يضفي على مهنة المحاماة البهاء والرونق الجميل الذي تفتخر به بين المهن، وكلما زاد تشريف مهنة المحاماة والاعتراف بنبل رسالتها عبر الزمن كلما زاد هذا الكساء بهاءا ورونقا وجمالا. وكلما اتسع نطاق هذه الأعراف والتقاليد كلما اتسع هذا الكساء. ولعل الكلام بهذه المناسبة قد يعود إلى ما سبق أن سقته في معرض هذا الموضوع عندما تطرقت إلى كون مهنة المحاماة مهنة حرة ومستقلة لا ينأى بها عن اعتبارها جزءا من أسرة القضاء ولا يحول دون اعتبارها وظيفة من وظائف القضاء شأنها في ذلك شأن قضاء النيابة العامة. ورجالها بهذا الاعتبار يعتبرون قضاة قبل أن يكونوا من رجال المحاماة ووجب أن يكون لهم ما لرجال القضاء بشقيه الجالس والواقف من حقوق وامتيازات.

فإذا كانت هذه اللمحة التي جئنا على سياقتها في خضم الكلام عن مهام مهنة المحاماة وأهميتها داخل جهاز العدالة ومختلف الصعوبات التي قد تطرح بصدد الكلام عنها أو مزاولتها وكذلك عن الآفاق التي يمكن أن يفتحها هذا الكلام لضمان مستقبل زاهر لمهنة المحاماة ورجالاتها ولمرفق العدالة والمجتمع ككل، فإن منهجية هذا البحث قد تطرح علينا السؤال حول دورها في تنظيم المجتمع والوسائل التي تؤهلها لذلك وتمكنها من أداء هذا الدور كما يجب، ولعل الجواب على هذا السؤال هو ما سوف يكون موضوع الفكرة الثانية منه وذلك كما يلي:

دور مهنة المحاماة في تنظيم المجتمع وداخل مرفق العدالة

إن منهجية البحث في الشق الثاني من هذا الموضوع سوف تقتضي تقسيمه إلى نقطتين أساسيتين: تخصص الأولى منها للكلام عنه دور مهنة المحاماة في تنظيم المجتمع وتخصص الثانية للكلام عن دورها داخل مرفق العدالة.

إلا أنه وقبل الشروع في هذا العمل سوف تقتضي طبيعة هذه المنهجية الكلام عن ضرورة تنظيم المجتمع وكذلك عن ضرورة مرفق العدالة.

ضرورة تنظيم المجتمع وضرورة مرفق العدالة

إذا كان تعريف المجتمع هو أنه جماعة من البشر تعيش بصورة دائمة ومستقرة في حيز إقليم معين تتوفر فيه عناصر الحياة من موارد للري وموارد للطعام تجمع بينهم وحدة الرغبة في العيش معا وفقا لقواعد وضوابط ونواميس اتفقوا على أن يجعلوا منها نظاما يحكم العلاقات فيما بينهم. فإن هذا النظام هو الذي يقوم على أساسه وجود هذه الجماعة، وإذا انعدم هذا النظام تفككت هذه الجماعة وبالتالي اندثر معها المجتمع.

ولما كان الإنسان لا يستطيع العيش بمفرده بعيدا عن كل الجماعات البشرية فإن رغبته في العيش داخل المجتمع ليست رغبة مجانية ولكنها رغبة من أجل تحصيل منفعة معينة وهي ما يحققه من خلال علاقاته مع أفراد مجتمعه وما يحققه له مجتمعه من خدمات عامة ومختلفة وبالتالي وجب أن يكون لهذه الرغبة ما يقابلها من طرف كل فرد من أفراد المجتمع على حدا، وهذا المقابل هو شعور كل فرد من هؤلاء بإلزامية النظام الذي يحكم مجتمعه وامتثال كل واحد منهم للجزاء الذي يستتبعه كل من أخل بقواعده منهم.

ولما كان الإنسان لا يعيش إلا داخل الجماعة وأن هذه الجماعة لا يمكن أن تقوم إلا إذا كانت محكومة بنظام يضبط العلاقات بين أفرادها والعلاقات بينها وبين كل فرد منهم فإن ضرورة فرض هذا النظام تكمن في توفير العيش داخل الجماعة للإنسان.

والنظام عموما هو مجموعة القواعد الاجتماعية التي تحكم سلوك الفرد داخل المجتمع وتتكون هذه القواعد من القواعد القانونية ومن الأعراف والعادات والتقاليد، ومن القواعد الخلقية ومن قواعد المجاملات ولا يمكن لهذه القواعد أن تشكل نظاما إلا إذا كانت مقترنة بالجزاء إما المادي تدركه الحواس كما هو في القواعد القانونية والأعراف والتقاليد وبعض القواعد الخلقية، وإما المعنوي لا تدركه الحواس وإنما يعبر عنه الفرد بالاشمئزاز والنفور كما هو الحال في قواعد المجاملات وكذلك بعض القواعد الخلقية.

وإذا كان الجزاء بوصفه الآثار التي تترتب عن الإخلال بالقاعدة القانونية لوصفها أهم قاعدة من القواعد المشكلة للنظام الذي يحكم الجماعة لا يمكن توقيعه إلا وفق إجراءات وشكليات أو طقوس معينة، فإن هذه الإجراءات والطقوس والشكليات مرت بمراحل مختلفة منذ ظهور أول جماعة بشرية على وجه الأرض، وهذه المراحل كثيرة ومتعددة ولا يمكن حصرها إلا وفق مناهج معينة لا سيما وأن تاريخ ظهور أول جماعة بشرية على وجه الأرض لا زال مختلف فيه لحد الآن وأن الأبحاث في هذا المجال لا زالت مستمرة وقد تكشف في المستقبل عن ظهور جماعات وأنظمة غير معروفة في التاريخ المتداول حاليا، فإنه مع ذلك يمكن حصرها من خلال تقسيم الحقب التي مرت منها إلى حقبتين وهما حقبة العدالة الخاصة، وحقبة العدالة العامة.

والعدالة الخاصة ظهرت منذ العصور الأولى لنشأة الإنسان وتقوم على مبدأ الثأر والانتقام الشخصي، بحيث كان إبانها من القواعد المنظمة للجماعة البشرية والتي تواضع لها أفراد هذه الجماعات أن المدين الذي لا يستطيع تسديد ما عليه من المستحقات أو الديون في الفترة المحددة لها يصبح ملكا لدائنه الذي يصبح له الحق في قتله أو تقطيع أطرافه أو بيعه في أسواق النخاسة أو سبي  أولاده وأهله. وعرفت هذه الحقبة عدت تطورات مع نمو الغرائز البشرية في الإنسان وتطورها وسارت نحو التقليل من حدتها إلى أن تطورت هذه القواعد ولم يصبح معها من حق الدائن إلا استخدام المدين في حقوله لمدة يراها مناسبة لسداد دينه بصورة شخصية ووفق قناعته.

ولما بلغت الإنسانية نوعا من الرقي وعرفت الحضارة، كان لزاما عليها أن تغير مختلف أنماط عيشها لما في ذلك إجراءات أو شكليات أو طقوس توقيع الجزاء، فانتقلت بذلك من مرحلة العدالة الخاصة والانتقام الشخصي إلى مرحلة العدالة العامة وإنشاء المحاكم وذلك من مرحلة الإفتاء إلى مرحلة التحكيم إلى مرحلة البر يطور ثم إلى مرحلة القاضي بعد مجيء الإسلام وانتقال العالم من الحضارات القديمة إلى الحضارة المعاصرة.

ومعلوم أن المراد من هذه النبدة هو توضيح ضرورة مرفق العدالة داخل المجتمع وذلك مرده إلى أن المجتمع لا يقوم إلا على أساس النظام، والنظام لا يتحقق إلا على أساس جهاز يكفل تطبيق واحترام قواعده وهذا الجهاز هو ما يعرف حاليا بجهاز العدالة أو المحاكم.

1. دور مهنة المحاماة في تنظيم المجتمع.

المحاماة مهنة قانونية وقضائية وكونها قانونية هو ما أهلها لتكون مهنة قضائية ووصفها قضائية لا يحول دون اعتبارها مهنة قانونية، وذلك لأن مهنة المحاماة بالإضافة إلى ما لها من دور داخل مرفق العدالة فهي كذلك تلعب دورا مهما في تنظيم المجتمع، علما أن هذا التنظيم لن يتأتى إلا باحترام مختلف القواعد القانونية التي تنظم سلوك الفرد داخل المجتمع في مختلف مجالات الحياة.

وكما سبق الحديث في معرض المحور الأول من هذا الموضوع والمتعلق بمهام مهنة المحاماة فإن هذه الأخيرة تلعب دورا مهما في تنظيم المجتمع، فإذا رجعنا إلى المقتضيات القانونية في هذا الشأن وعلى وجه الخصوص المواد المتعلقة بتنظيم مهام مهنة المحاماة في المغرب نلاحظ أنها تنص على أن من جملة هذه المهام تمثيل الأطراف أمام الجهات الإدارية والمجالس التأديبية والجماعات والمؤسسات العمومية والهيآت المهنية وكتابات ضبط المحاكم بخصوص الإجراءات الغير القضائية، وإعطاء الفتاوى والإرشادات في الميدان القانوني وتمثيل الأطراف في العقود وتحرير جميع العقود العرفية.

والمحامون أثناء مزاولتهم لهذه المهام والتي لا يمكن اعتبارها مهاما قضائية وإنما يجب اعتبارها مهاما قانونية، يعتمدون في ذلك على سلوكهم المهني ويلزمون باحترام قسم مهنة المحاماة الذي يحتم عليهم مزاولة هذه المهام بضمير واستقلال ونزاهة وكرامة لما في طبيعة عملهم من تأثير على مختلف العلاقات السائدة بين أفراد المجتمع وعلى حسن سير العمل داخل هذه المؤسسات والمجتمع ككل. وهم بذلك يؤدون وظيفة جليلة تتمثل في تكريس مبدأ سيادة القانون واحترام قواعده وبنوده من أجل تحقيق مجتمع منظم تسوده الطمأنينة والاستقرار.

والمحامون بهذا الاعتبار لما لهم من دراية قانونية يعتبرون من جملة الجهات التي تساهم في العمل من أجل احترام القانون وذلك بتفعيلهم لنصوصه ومقتضياته خلال مهامهم خارج المحاكم، وهم بذلك يؤدون وظيفة اجتماعية وهذه الوظيفة منبثقة من نبل رسالتهم التي تهدف إلى إقامة مجتمع متحضر والانتقال به من حضارة إلى حضارة وكذلك إلى تطوير مختلف الأنظمة التي تحكمه مسايرة لكل المستجدات التي تطرأ في العالم ومواكبة لكل المتغيرات فيه.

واعتبارا لأن المحامون لا يؤدون مهامهم داخل المحاكم فقط بل يمارسون هذه المهام كذلك خارج نطاق المحكمة ويمارسون مساطر تختلف عن المساطر القضائية وذلك أمام مختلف الجهات الإدارية التابعة للإدارة والجماعات والمؤسسات العمومية والهيآت المهنية ومختلف المجالس التأديبية، فإنهم يشكلون بذلك جهة تعمل على تحريك النصوص القانونية وعلى احترامها أمام هذه الجهات.

ولا يقتصر دور المحاماة في تنظيم المجتمع على هذه المساءل بل إن دورهم في هذا النطاق يكمن كذلك في نشر الثقافة القانونية بين أفراد المجتمع وبتوعيتهم لحقوقهم وواجباتهم وفي إعطائهم الاستشارات والفتاوى والنصائح الكفيلة بحل مشاكلهم وهم بذلك يلعبون دورا في توصيل القانون والعلم بقواعده وأحكامه للجمهور وهو ما يشكل اللبنة الأولى في بناء مجتمع منظم يعلوه مبدأ الحق وسيادة القانون.

فإذا كان من المبادئ الراسخة في مختلف فروع المعرفة القانونية والحقوقية مبدأ لا يعذر أحد بجهله للقانون ومبدأ القانون لا يحمي المغفلين، فإن افتراض العلم بكل قواعد القانون قد لا يتوفر حتى لدى بعض المتخصصين في شعبه فبالأحرى أن يتوفر لدى عامة الناس لا سيما الفقراء منهم والذين لم يسعفهم الحظ في التعلم كسكان البوادي والقرى والمناطق النائية أو المنعزلة عن المدار الحضاري. والمحامون يفرض عليهم واجبهم كمحامون ورجال للقانون تعليم هؤلاء الأشخاص وساءل الحفاظ على حقوقهم ومصالحهم وذلك بوسائل مختلفة بما فيها تقديم الفتاوى والاستشارات وعقد برامج تعليمية أو ندوات في مختلف فروع المادة الحقوقية.

ولا ينكر أحد ما قد يلعبه هذا العمل وغيره من الأعمال الأخرى التي يمكن أن تصنف من جملة مهام مهنة المحاماة. إذ أنها أعطت كثير من النتائج المثمرة منذ أقدم العصور، فإذا كان مختلف المفكرون والباحثون والفلاسفة ورجال السياسة قد اهتموا بمهنة المحاماة وأعطوها مكانا خاصا بها في مختلف إنتاجاتهم الفكرية وكرسوها في دساتيرهم وضمن قوانينهم وأفردوا لها تنظيمات خاصة، فذلك لأن التجربة أسفرت على أن مختلف الأنظمة بما فيها أنظمة الحكم أو الأنظمة الاجتماعية بوجه عام قد تطورت  على يد هؤلاء الرجال الذين استقر القانون على تسميتهم بالمحامين في آخر المطاف.

وعموما فإن مهام مهنة المحاماة وسلوك المحامين أثناء مزاولتهم لمهامهم له دور لا يستهان به في تنظيم المجتمع وفي حماية النظام العام، وذلك لأن مهنة المحاماة عموما مهنة قانونية تدافع عن صفوف ومصالح الأطراف معتمدة في ذلك على وجوب احترام القانون. وتنظيم المجتمع لا يتأتى إلا باحترام القانون ومجموع القواعد المشكلة للنظام العام. وتعتبر مهنة المحاماة مهنة قانونية تهدف إلى تنظيم المجتمع والمطالبة باحترام القانون في مختلف العلاقات سواء منها العلاقات التي تنشأ بين الفرد والجهات العمومية وسواء منها العلاقات التي تنشأ بين الفرد والفرد وذلك من زاوية القانون المنظم لها والذي جاء بمهام مهنة المحاماة كما سبق مناقشتها في المحور الأول من هذا الموضوع. وبالنظر إلى هذه المهام يلاحظ أنها تنقسم إلى مجموعتين الأولى مهام قضائية محضة والثانية مهام غير قضائية أو ما يمكن الإصطلاح عليه بالمهام القانونية وهي التي تشكل دور المحامي في تنظيم المجتمع، أما بالنسبة للمهام القضائية وإن كان لها بدورها تأثير على نظام المجتمع فإن دورها مع ذلك لا يمكن اعتباره إلا دور غير مباشر في هذا الشأن، وأن دورها المباشر في الأصل هو الذي يظهر على واجهة توجيه القضاء نحو الأحكام والقرارات الكفيلة بضمان الطمأنينة والاستقرار داخل هذا الأخير، وهذا هو ما سوف يكون موضوع المناقشة التالية:

2. دور المحاماة داخل مرفق العدالة

بديهي أن نبدأ المناقشة على هذا المستوى من خلال طرح إشكالية هذا الموضوع، بحيث أن من مناهج البحث في الموضوعات التي لها صلة بالمادة الاجتماعية عموما وبالمادة القانونية على وجه الخصوص أن يطرح الباحث إشكالية موضوع بحثه للجمهور وليعقب عليها بعد ذلك بالجواب وهو ما يسمى في الأصل بالمناقشة والتحليل. وإشكالية هذا الموضوع تدور عموما حول طرح تساؤل بسيط وهو أي دور للمحاماة داخل مرفق العدالة؟

لا يجادل أحد في أن العدالة هي أم القضاء والمحاماة بدليل أن العدالة أوسع من القضاء والقضاء لا يشكل إلا أحد أبناءها إلى جانب صنوه المحاماة. وهو بهذا المعنى يعتبر جزءا منها مثله في ذلك مثل المحاماة التي ذهبت التشريعات المغربية إلى اعتبارها جزءا من القضاء، في حين أنها ليست كذلك ولكنها جزء من العدالة. وهذا بالنظر إلى ما لمهنة المحاماة من استقلال باعتراف هذه التشريعات نفسها وكذلك لما لمهنة المحاماة من حصانة وحرية في اختيار أساليب الدفاع الأنسب لكل قضية يقفون لها، والمحاماة بهذا الاعتبار يمكن اعتبارها أختا للقضاء في مرفق العدالة تقدم لأختها وظيفة في شكل مقالات ومذكرات ومرافعات ومستنتجات مستوحاة مما لرجالها من ثقافة وملكات قانونية أهلتهم لهذه القرابة. ولقد تضاربت الأقوال والتعابير في هذا المضمون، فمنهم من اعتبر العلاقة القائمة بين القضاء والمحاماة في مرفق العدالة علاقة مصاهرة فكرية، ومنهم من اعتبرها علاقة توأم بتوأمه ومنهم من اعتبرها علاقة مساعد لمساعد (بفتح السين الثانية) ومنهم من اعتبرها شراكة.

والعدالة عموما هي أسرة تتكون من القضاة والمحامون ومساعدو القضاء من كتاب الضبط والموظفون العاملين معهم، ومن خبراء وتراجم وغيرهم ومن مجموع القرارات والأحكام والنتائج الفكرية التي ينتهي إليها هؤلاء بمعنى أنها مجموعة من العناصر تتداخل وتتفاعل فيما بينها لتنتهي في الأخير إلى رأي يتفق الجميع على أنه الرأي الصائب في الحفاظ على استقرار المعاملات داخل المجتمع وتحقيق الطمأنينة بين أفراده.

والقضاء سلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، تتكون من قضاة للموضوع وقضاة للنيابة العامة ويضاف إلى قضاة الموضوع قضاة التحقيق وقضاة المستعجلات وقضاة الأسرة وقضاة التنفيذ، إلا أن قضاة التحقيق تكون مهامهم أقرب لمهام قضاة النيابة العامة وقضاة الأسرة والمستعجلات تكون مهامهم أقرب لمهام قضاة الموضوع، أما بالنسبة لقضاة التنفيذ فهي مؤسسة حديثة وتسهر على مراقبة حسن تنفيذ أحكام المحاكم لضمان مصداقيتها والثقة في المحاكم.

والقضاة بوجه عام رجال للقانون شأنهم في ذلك شأن المحامون سواء من حيث التعليم القانوني وسواء من حيث الغاية إلا في بعض الاختلافات الجزئية التي لم يأتي الوقت بعد لذكرها.

وإذا افترضنا أننا بصدد مصنع كبير يسمى العدالة فإن مهمة القضاء داخل هذا المصنع سوف تقوم مقام الآلة ومهمة المحاماة سوف تقوم مقام العامل الذي يزود هذه الآلة بالمواد الأولية القابلة للتصنيع، وأن هذه الآلة بعد تلقيها للمواد الأولية سوف تصنع قطعا جاهزة الاستعمال وعند خروج هذه القطع الجاهزة تودع في مستودعات المصنع والتي يمكن اعتبارها والحالة هاته مختلف المصالح التابعة للمحاكم بما في ذلك مصلحة كتابة الضبط، ومن هذه المستودعات سوف تسلم هذه المصنوعات إلى طالبيها مباشرة.

وهذه العملية هي ما نسميها بالعدل أو بإنجاز مهمة العدل أو تحقيق العدل بين الناس. فالمحامون يعتبرون عمالا حسب هذا التوضيح لأنهم يزودون القضاة بمختلف الآراء والأفكار والنظريات التي يمكن اعتمادها في صناعة العدل. والقضاة يعتبرون آلات للتصنيع لأنهم يتلقون هذه الآراء والأفكار والنظريات من العمال ويستوعبونها بما لهم من ملكات وقدرات فكرية لا تقل عن التي يتميز بها العمال في هذا المثال، وبعد أن يستوعبونها يخرجونها من جديد في شكل أحكام وقرارات وأوامر تودع لدى مصالح كتابة الضبط والمصالح المختلفة التابعة للمحاكم عند الاقتضاء من أجل تمكين المستهلك والذي هم والحالة هاته المتقاضون من ممارسة حقوقهم وفق هذه الأحكام والقرارات.

وإذا كان هذا الافتراض جاء في هذا المقال من أجل توضيح العلاقة التي تقوم بين القضاء والمحاماة داخل مرفق العدالة، فإن الكلام فيه يستحضر بعض المقولات التي سيقت في هذا المجال، ومنها مقولة صادرة عن شيخ القضاة بمصر رئيس محكمة النقض المصرية لما سئل عن رأيه في مهنة المحاماة وهي "ذع فهي عماد القضاء وسنده فعملهم غذاء القضاء الذي يحييه وعناؤهم في ذلك عناء بالغ جدا وهو أشد عناء في غالب أحوال كثيرة من عناء القاضي" وعموما فإن العلاقة بين القضاء والمحاماة علاقة غنية ومنعشة للفكر البشري عموما، إذ بالتأمل فيها تفتح الصحف وتنشر الأقلام ويسيل الحبر المستوحى من مختلف الإلهامات والمجالات الفكرية والإبداعية للتعبير عن هذه العلاقة من مختلف المناهل وجوانب الحياة البشرية.

فالعدالة إذن هي عمل إبداعي قبل أن يكون عمل سلطاوي أو قضائي، مستوحى من تمازج ثقافة القضاة وملكاتهم مع ثقافة المحامين وملكاتهم كذلك لأن كلا منهم رجل فكر وإبداع واجتهاد وفقه، هذه الصفات التي جعلت منه رجلا للقانون والعدل إلا أن الاختلاف بينهما قد يكمن في الدور الذي يقوم به كل واحد منهم داخل مرفق العدالة. إذ أن القاضي أثناء عمله ينتقي أحسن الإبداعات الفكرية لرجال المحاماة ويجعلها غداءا لقراره أو حكمه ويعتمد في ذلك على مبدأ الترجيح. أما المحامي فإنه أثناء عمله ينتقي أحسن المبادئ والقواعد والحجج ويؤسس عليها عمله ويعتمد في ذلك على مبدأ التأسيس والإبداع، وفي هذا الصدد قال "النقيب محمد بن عبد الهادي لقباب" في موضوع مداخلته في ملف ندوة الربيع المنعقدة بتاريخ 12/05/1989 "فالقضاء كما قيل له فضل الترجيح بينما المحامي له فضل التأسيس والإبداع"، وهو منشور بمجلة الإشعاع العدد الثاني السنة الأولى دجنبر 1989.

وكذلك سار على هذا النهج القاضي الفاضل الأستاذ "إدريس فجر" لدى مداخلته في ندوة المهن القانونية الحرة لسنة 1990 بقوله "بأن العمل القضائي الجيد صانعه القاضي ومهندسه المحامي"، صادر بالمجلة المغربية لقانون واقتصاد التنمية.

فمهمة المحامي حسب هذا الشأن تبدو سابقة لمهمة القاضي في صنع القرار القضائي وهي بذلك تشبه محاضر الضابطة القضائية والبحث التمهيدي في الدعوى العمومية، إلا أن دورها كذلك غالبا ما يأتي سابقا لدور هذه المحاضر، إذ غالبا ما لا تفتح هذه المحاضر إلا بعد تقديم المسطرة من طرف الدفاع، وعلى أساسها ما تضمنته من حجج ووقائع تؤسس هذه المحاضر. ومن هنا جاء دور الكلام في الدور الذي تقوم به مهنة المحاماة داخل مرفق العدالة وبين مختلف صانعوا القرار القضائي.

إن الأصل أن يبدأ العمل داخل جهاز العدالة بعمل المحامي الذي يتقدم بمجهوداته الفكرية على إثر تلقيه لتوكيل موكله بمكتبه وأثناء ذلك يضمن هذه المجهودات مختلف الوقائع التي بلغت إلى علمه من طرف موكله أو ذويه ويعززها بمختلف الحجج التي توفرت لموكله أو لديه، إذ غالبا ما يسعى المحامي إلى بذل عناية من أجل تمكين موكله من حجة لا يتوفر عليها مثله في ذلك مثل المحقق الذي يجمع الأدلة من مختلف القرائن والحجج التي يجدها أمامه.

والمحامي الذي يتقدم بفتح هذه المساطر أمام القضاء قبل أية مبادرة من الجهات الأخرى التي تشارك في صنع القرار القضائي يكون بذلك كمن يقوم بعمل تأسيسي يوضح فيه مختلف الخطوات التي يتعين على المحاكم والجهات الأخرى السير على نهجها من أجل الوصول إلى العدل والحقيقة، وهو في ذلك يحتاج إلى هندسة وتقنية خاصة لا تملك المحكمة حق الزيادة فيها أو النقصان منها طبقا للقاعدة التي تقول أن المحكمة لا تقضي إلا بما يطلب منها ولا تملك حق الإفتاء للخصوم عملا بمبدأ الحياد والنزاهة وعدم الانحياز، وهذا التأسيس وهذه الهندسة هي ما يوجه القضاء عموما نحو القرارات والأحكام الصائبة. لذا فإن مسألة ضمير المحامي والحالة هاته أهم وأخطر من مسألة ضمير القاضي، وقسم مهنة المحاماة الوارد بالمادة 12 من ظ 14/10/1996 دليل شاهد على ما لضمير المحامين عموما من دور في مؤسسة العدالة. إذ أن هؤلاء هم من يوجه القضاة نحو عدالة منصفة.

ولكن رغم التسليم بهذه المسألة فإن التساؤل قد يفرض نفسه على الجميع حول ما إذا كان دور المحامي أمام المحاكم وفي تحقيق العدالة ليس إلا دور استثنائي ويجوز التغاضي عنه وذلك بترك المجال مباشرة للمتقاضين قصد مباشرة هذه المهام كل بحسب صفته أو مصلحته؟

والإجابة عن هذا السؤال طبعا تكمن في ما هية العدالة نفسها، فإذا اعتبرنا العدالة تمخض وصراع شريف من أجل تجسيد الحقيقة وتنظيم المجتمع. فإن هذا التمخض وهذا الصراع يحتاج إلى كثير من الوسائل العلمية والفنية خصوصا وإذا رجعنا إلى أن القضاة قبل أن يكونوا رجال سلطة فإنهم رجال فكر وإبداع وثقافة، إذ كان في بداية العهد الإسلامي لا يعهد بمهمة القضاء إلا إلى العلماء وأهل الثقة والفتوى وهو الأمر الذي سار عليه النهج إذ أن قضاة العصر الحاضر هم صفوة من شباب جد وكد وثابر وترقى في سلاليم العلم حتى أصبح له من المؤهلات ما مكنه من تبوء مناصب الحكم بين الناس، وهم بذلك ولأجل مهام العدل والحقيقة يسلكون مختلف الشعب والنظريات التي يفعمون بها، ولا يمكن معه بالتالي لكل المتقاضين مسايرة هذه المؤهلات والتقنيات التي تسير عليها المحاكم ويتحلى بها القضاة وقد لا يتوفر العلم بها كذلك حتى لبعض المتخصصين في مجال القانون والمعرفة ومن تم كان لزاما أن تقابل هذه الفئة من المثقفين التي تمثل سلطة القضاء فئة لا تقل عنها دراية في مجال تخصصهم تمثل المتقاضين وتمكنهم من سبل الوصول إلى العدل والحقيقة شأنها في ذلك شأن القضاة، وهذه الفئة هي فئة المحامون.

ولعل التساؤل قد يثور أيضا حول ما هي جدوى ثقافة القضاة وما جدوى ثقافة المحامون في تحقيق العدل والوصول إلى الحقيقة ما دام أن الكل يعرف العدل؟ وما دام أن القضاء سلطة والسلطة تحكم بما تريد؟ 

إن الجواب عن هذا التساؤل مختلف فيه باختلاف الآراء والمذاهب فمنهم من قال أنه ضرورة سياسية مرتبطة بنضال الشعوب من أجل حقوقها ومنهم من قال بأنه ضرورة بيروقراطية مرتبطة بالإدارة ونظام الحكم ومنهم من قال بأنه ضرورة إيديولوجية. ولكن الجواب الصحيح في رأيي هو أنه فطرة طبيعية في الإنسان تسير دائما نحو التطوير والتغيير والتجديد وتواكب نمو الإنسان وعقلياته ومقدوراته على التعامل مع الطبيعة ومع المجتمع، وتستدعي منه بدل كل العناية لتنظيم الجماعة التي يعيش فيها ولجعل الحياة أيسر ومستقرة. والدليل على ذلك هو أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش إلا وسط الجماعة وأن الجماعة لا تقوم إلا بوجود النظام وأن النظام لا يتحقق إلا بوجود عدل يحكمه ويقمع كل ما يحول دون تحقيقه. ومن تم ظل الإنسان يفكر ويبدع إلى أن توصل إلى تحقيق نظام للعدالة وهو الآن يواكب ويساير كذلك من أجل تحقيق نظام عادل ومنصف. وكذلك لأن الإنسان بطبعه حيوان مفكر لا تستقيم له الحياة إلا بالفكر والتطوير والتجديد وخلق الحضارة، لذلك فإن العدل يعتمد أساسا على الفكر والتفكير والتأمل والمشاورة. والإسلام كدين سماوي أقر هذه النزعة لدى الإنسان وهذا المبدأ الذي لا يقوم العدل إلا به وهو مبدأ الفكر والإبداع في القضاء عندما اشترط في القضاة أن يكونوا من علماء الأمة ومفتوها وكذلك عندما اشترط في الوكالة أن لا ينتدب لها إلا أهل الثقة والثقة هنا تشمل العلم كذلك ما دامت الوكالة تشمل باب الإفتاء والإفتاء لا يقوم إلا بالعلم. وهو ما سار عليه الركب إلى الوقت الحاضر وأصبحت العدالة نتاج فكري بين فعاليات مختلفة تجمع بين السلطة والتمدن وتسعى نحو الرقي في كل المجالات البشرية.

وكذلك فإن القضاء بوصفه سلطة مستقلة تلزم بتطبيق نصوص تشريعية لا يسمح له بالتدخل في صنعها ولن يتأتى له ذلك إلا إذا توفر على ملكة قانونية تمكنه من فهم محتوياتها وقواعدها وأحكامها ولا يمكن لهذه الملكة أن تستقيم لديه إلا إذا توفرت لديه ثقافة ودراية بمختلف مناحي الحياة تمكنه من الإقناع والاقتناع. ومن تم باتت مهنة المحاماة ضرورة قضائية داخل مرفق العدالة لاعتبارها مهنة الفكر والإبداع تنير السبل للقضاء نحو نظام عادل ومنصف وتمكن المجتمع من الوصول إلى العدل والحقيقة.

والعدل والحقيقة مفهومان متلازمان لا يقوم أحدهما إلا إذا قام الآخر، ومفهوم العدل كمفهوم الحقيقة مفهوم نسبي ومرن يختلف من زمان إلى آخر ومن مجتمع إلى مجتمع ويتطور بتطور المجتمعات وحضاراتها ويتحدد من زاوية النظر إليه، فقديما كان قتل المدين المعسر أو تقطيع أطرافه يعتبر عدلا، أما الآن فقد أصبح ذلك جريمة يعاقب عليها القانون بعقوبة قد تصل إلى الإعدام، وقبل مجيء الإسلام كانت الربى تعتبر عدلا بين الدائن والمدين ولا تقوم المعاملات إلا على أساسها، أما بعد مجيء الإسلام وفي بعض البلدان العربية حاليا فقد أصبح اشتراط الربا باطل ومبطل للعقد ويعتبر ظلما للمدين، وعند أصحاب المذهب الجماعي فإن ترجيح المصلحة العامة وتغليبها على المصلحة الخاصة يعتبر عدلا، أما عند أصحاب المذهب الفردي فإن مراعاة المصلحة الخاصة أي مصلحة الفرد أهم من مراعاة مصلحة الجماعة في تحقيق العدل. في المغرب باعتباره بلد ليبرالي ومعتدل فإنه يسير في تحقيق العدل والحقيقة على نهج المبادئ الفردية المعتدلة والتي ترجح مصلحة الفرد لتحقيق مصلحة المجتمع وهكذا.

والمحامي طبعا أثناء مزاولته لمهامه داخل مرفق العدالة، يسير وسط ركب المجتمع ومختلف العاملين في حقل العدالة والمشاركين في صنع القرار القضائي ومساعدوا القضاء. ويسعى إلى تطبيق القانون وحسن سير العدالة، وهو في ذلك متشبع بروح النصوص القانونية السارية المفعول في بلده وهذه النصوص موضوعة من طرف جهاز برلماني يراعي في وضعها مختلف التيارات السياسية والاجتماعية الجاري بها العمل في بلده بما فيها المذهب الليبرالي الذي تقوم على أساسه مختلف المعاملات داخل المغرب، وهو في ذلك ملزم بمسايرة هذه المبادئ في تفسير مختلف هذه النصوص وتطبيقها على مهامه وتضمينها في مذكراته وأبحاثه، وهو في ذلك ينظر إلى العدالة وإلى الحقيقة من زاوية نظر مجتمعه إليها ويهدف إلى تحقيقها مثل ما أراد المشرع لها، دون إغفال حق المجتمع ودون الإضرار بمصلحة موكله، في دائرة المسؤولية وكرامة الدفاع ومن وجوب الحفاظ على السر المهني إلى عدم التدلل للموكل والخضوع له، فالمكتري الذي يطالب برفض طلب رفع السومة الكرائية على أساس العوز والعيال يكون غير محق بينما المحامي الذي يطالب بتخفيض هذه السومة الكرائية إلى القدر الذي يتلاءم وحالة موكله المادية والاجتماعية يكون محقا وقد ساير سياسة المشرع في مختلف النصوص المنظمة للعلاقة الكرائية وهي التي تتمثل أساسا في إنعاش وتشجيع ميدان العقار وحافظ على مصلحة موكله وبذلك يكون قد وفق بين مصلحتين إحداهما عامة والثانية خاصة. أما إذا نظرنا إلى المصلحة الثانية من حيث أنها مصلحة اجتماعية تهدف إلى مساعدة الطبقة الفقيرة من المجتمع بتقليل الأعباء عنها فإن الوضع حتما سوف يتغير، إذ سوف تصبح مصلحة المكتري مصلحة عامة ومصلحة مبنية على سياسة محاربة الفقر والقضاء على الفوارق الطبقية، ومصلحة المكري مصلحة خاصة مبنية على أساس الإثراء على حساب مصلحة المجتمع وهكذا فإن العدل والحقيقة مفهوم نسبي  ومرن وجب مراعاته على ضوء مختلف التيارات والسياسات والنزاعات الاجتماعية داخل المجتمع لا سيما إذا رجعنا إلى مختلف المبادئ التي تحاول إقامة نظام للقضاء عادل ومنصف، نجد اتفاقية صقلية لسنة 1982 التي تهدف إلى إقامة استقلال للمحاماة وللقضاء على أساس إنصاف الطبقات الفقيرة المحرومة داخل المجتمع. وإن كان السؤال هو ما معيار التمييز بين هذه الطبقات وغيرها؟ وهو سؤال له مقام خاص به وخارج نطاق هذا الموضوع، وعلى أي فإنه وإن كان من الصعوبة في بعض الحالات أن نميز بينما إن كانت المصلحة التي يقرها النص هي التي سوف تحقق الصالح العام أم العكس، فإن الضرورة تقتضي الترجيح والتوفيق بين السياسة التي يتوخاها المشرع من وضع هذا النص وهي غالبا ما تكون سياسة اقتصادية محضة باعتبار أن القانون ظاهرة اجتماعية تتميز بارتباطها بمفهوم الدولة وباعتبار أن القانون والدولة هما البناء الفوقي للقاعدة الاقتصادية للمجتمع لأنهما وجدا أساسا لحماية ودعم القاعدة الاقتصادية لا سيما إذا رجعنا إلى مفهوم القاعدة القانونية ودورها في استقرار المعاملات داخل المجتمع وإلى دور الدولة في احترام هذا القانون وبين السياسات الأخرى المطلوب تحقيقها داخل المجتمع، كما لو كانت هذه السياسة اجتماعية محضة تتوخى التقليل من الفوارق الطبقية أو تهدف إلى محاربة الفقر أو إلى مكافحة الأمية وتتعارض أحيانا مع مفهوم النص والغاية من وضعه بحيث أن الدور في هذه الحالة يترك لإبداع الدفاع ولترجيح القضاء وهو الأمر الذي قد يجعلنا أمام إشكالية جديدة  قد تفرض نفسها وهي المتمحورة حول إمكانية تجاوز النصوص أحيانا من طرف القضاء. والجواب طبعا بالإيجاب ما دام في ذلك تحقيق مصلحة تهم المجتمع وتوفيق بين مختلف السياسات والقواعد المنظمة له، لا سيما وأن المشرع نفسه قد عزز القضاء بسلطة تقديرية واسعة في الموضوع وقيدها بقواعد ومبادئ جمالية تزيد من جمالية رونق القضاء وتسمو به إلى مصاف قواعد ومبادئ العدالة.

ولعل للكلام فيما للقضاء من سلطة تقديرية في الموضوع وفيما يرد على هذه السلطة من استثناءات أو قيود أهمية بالغة في تأدية دوره داخل مرفق العدالة، وإذا كان من جملة هذه المبادئ والقيود إن لم نقل عنها صفات العدالة في القضاء ومظاهرها التزام القاضي بعدم تأسيس مقرره إلا بناءا على ما يروج أمامه من وقائع ومناقشات والتزامه بالحكم في حدود طلبات الخصوم وعدم الإفتاء لهم والالتزام بتعليل الأحكام والمقررات والالتزام بعدم محاكمة أيا كان إلا بعد استدعاءه بموطنه الخاص وغيرها من الالتزامات الأخرى سواء منها الواردة بالنصوص المسطرية أو الواردة بالأعراف والتقاليد الجاري بها العمل داخل المحاكم أو الواردة بمجموع المبادئ والقواعد المنصوص عليها في مختلف المواثيق والاتفاقيات الدولية في مجال العدالة. فإن هذه القيود أو الاستثناءات أو صفات العدالة في القضاء تعتبر بمثابة الأوسمة التي يوشح بها صدر القضاء كلما قطعت البشرية والمجتمعات مرحلة من الرقي والتقدم والتحضر والتمدن، فهي لا تنقص من سلطته ولا من مكانته داخل جهاز العدالة والمجتمع ككل، وإنما تلعب دورا في تطوير دوره داخل المجتمع ومرفق العدالة وتزيده أهمية في تأسيس مجتمع منظم وتضفي عليه سمات تميزه عن غيره من السلطات الأخرى وتجعل منه سلطة للعدالة وليس للقضاء فحسب.

والمحاماة باعتبارها رفيق القضاء في العدالة وملازمه الأول، تجد ملاذها في القيام بأعبائها ومهامها في تكريس هذه الاستثناءات والمبادئ المعززة لدور القضاء في تحقيق العدالة، وتتمسك بها إذ غالبا ما تلعب دور دليل أو مرشد القاضي في تحقيقها أو تذكره بها إذا ما شده أمر ما عنها إلا أن الأدهى من سوء فهم طبيعة القيود والاستثناءات التي ترد على سلطة القضاء والتي انتهينا إلى اعتبارها سمات العدالة في القضاء أو صفاتها هو أن يعتبر البعض ولا سيما من الجمهور أن مهنة المحاماة بدورها قيدا يرد على سلطة القضاء أو جهازا لمعارضة القضاء والحد من سلطته، وذلك لدور تكريس القيود أو السمات التي ترد على سلطته كما سبق توضيح ذلك.

فالمحاماة وإن كانت بطبيعة مهامها ولاعتبارها مظهرا من مظاهر حق الدفاع أو حرية الدفاع كما يسميه البعض لا يمكن اعتبارها جهاز معارضة داخل مرفق العدالة ولا يمكن اعتبارها كذلك قيدا واردا على سلطة القضاء للحد منها، وإنما هي بذلك تعتبر دليلا للقضاء تدله على ما يضفي على أحكامه وقراراته صفات تتوافق ومبادئ العدل والإنصاف، وهاته المبادئ التي هي أساس كل عمل قضائي صائب وبعيد عن الإلغاء، وهي بذلك تعتبر المؤسس والمهندس للعمل القضائي الجيد والأرضية التي ينطلق منها القضاء نحو العدالة. والدليل على أن مهنة المحاماة ليست قيدا واردا على سلطة القضاء ولا معارضا له هو أن كثيرا من القرارات والأحكام الصادرة عن القضاء نفسه جاءت شاهدا على دور الدفاع في صدورها، بل قد تأتي في بعض الأحيان منوهة لعمل الدفاع في توجيه القضية التي صدرت بصددها، وهو الأمر الذي يدل على مدى تكامل وتقاطع المحاماة مع القضاء في صنع مختلف القرارات القضائية.

وكذلك فإن ما يمكن سياقته من أمثلة بصدد هذه الملاحظة والذي لا يمكن معه اعتبار مهنة المحاماة قيدا أو معارضة لسلطة القضاء، هو أنه في كثير من المناسبات ما يعدل ممثل النيابة العامة عن ملتمساته أمام القضاء الرامية إلى معاقبة المتهم ليشاطر دور الدفاع عن هذا المتهم في إظهار براءته وخير دليل على ذلك هو أن النيابة العامة تعتبر خصما شريفا ومفاده أن تعدل النيابة العامة وحقها في ذلك عن المتابعة وتطالب ببراءة المتهم وفي أي مرحلة من مراحل المسطرة.

إذن فمن خلال إبراز دور القضاء في مرفق العدالة يمكن الوقوف على دور المحاماة داخل هذا الجهاز، فالمحاماة شقيقة للقضاء في العدالة وغايتها إحقاق الحق وإعادة الأمور إلى نصابها قبل وقوع الجريمة التي اعتبرها المشرع جريمة لأنها تغير من سمات المجتمع ونظامه وكذلك تحقيق نظام للقضاء عادل ومنصف بإحداث توازن بين الخصوم وبين النصوص وبين مختلف السياسات المطلوب تحقيقها من وراء وضع النصوص أو المبادئ التي غالبا ما يحتكم إليها القضاء أو تحكمه. فهي توفيق بين مصلحتين متضاربتين ومتداخلتين في المجتمع وقد يصعب التمييز بينهما في بعض الحالات. وهي بذلك تقوم بدور الدليل والمرشد للقضاء والموجه له نحو القرارات والأحكام المصادفة للصواب وهي بذلك تكون مشاركة في صنع هذه القرارات والأحكام ،وهي بذلك تتحمل مسؤولية اجتماعية وحضارية تقوم على أساس الضمير والأخلاق والنزاهة والكرامة والاستقلال.

والمحاماة مهنة حرة لا تعرف القيود ومن تم كان لا بد من توفير مناخ مناسب لرجالها حتى يمارسوا مهامهم بعيدا عن الخوف والتهديد وعن التردد ولذلك تدخل المشرع ونص على وجوب احترام حصانة الدفاع واستقلاله وإن كان النص الوارد بظهير 14/10/1996 لا يعتبر كافيا لتوفير هذه الحصانة إذا اعتبرنا أن مهنة المحاماة تختلف عن المهن الأخرى وتتحلى بصفات تشابه صفات القائمين بخدمة المرافق العامة، بل إنها في وقت ما كانت مرفقا من مرافق الدولة ولها من الأعباء ما لا يتحمله القضاء نفسه، ولها من المتاعب ما ليس لغيرها، إذ غالبا ما تدخل في صراع مع جهات سلطوية لها من النفوذ ما لها، وقد يكون مرد هذا الصراع تحقيق مصلحة يرعاها القانون والمجتمع وقد يكون من وراء هذا الصراع اكتشاف حقيقة قد تستحق عليها المحاماة التنويه في النهاية.

إن أحسن حصانة يمكن توفيرها للمحاماة باعتبارها عنصرا ذو أهمية داخل مرفق العدالة ومن شأنها أن تحقق التوازن داخل المجتمع وبين مختلف المصالح والسياسات المتضاربة وكذلك بين السلطات الثلاث، هي الحصانة التي يراعى فيها اختلاف مهنة المحاماة من حيث طبيعتها ومن حيث غايتها ومن حيث تاريخها عن سائر المهن وكذلك هي الحصانة التي يراعى فيها أعراف وتقاليد مهنة المحاماة، هاته الأخيرة التي لا يمكن حصرها أو تحديد ملامحها إلا ما كان من جهة نبل رسالتها وأخلاق رجالها، وكذلك هي الحصانة التي تتوافق مع العلاقة القائمة بينها وبين القضاء والتي تستلزم أن يكون لرجالها ما لرجاله من حقوق وامتيازات وحماية في مواجهة الخوف والتهديدات لا سيما وأنه على أساس عمل المحاماة يقوم عمل القضاء. وكذلك هي الحصانة التي تتعدى شخص رجل المحاماة إلى ذويه وأفراد أسرته ومستخدميه لما قد يطال هؤلاء من تعسفات أو تهديدات بسبب مهامه وكذلك هي الحصانة التي تحمي المحامي من الضغوطات والإكراهات المادية والاقتصادية والتي قد ترغمه على التجرد من مبادئ النزاهة والكرامة وتقلل من دوره داخل مرفق العدالة.

ولئن كان المشروع الجديد لقانون مهنة المحاماة المصادق عليه بين جمعية هيآت المحامين بالمغرب ووزارة العدل قد جاء بجديد في هذا الصدد وهو الوارد بنص المادة 62 منه، فإنه مع ذلك لم يعالج كل جوانب هذا المبدأ الذي قد يعتبر أهم مبادئ مهنة المحاماة والذي له صلة مباشرة بأحد محاور مبادئها عموما وهو مبدأ استقلالها، وفي رأيي فإن مسألة الحصانة هاته مسألة ضخمة وجب أن تفرض لها دراسات خاصة تتناول مختلف مناحي حياة رجال المحاماة وتتناول سلوك المحامي بوجه عام وليس مجرد سلوكه أثناء تأديته لمهامه. وذلك لأن السلوك المهني للمحامي لا ينفصل عن سلوكه الكلي والعكس بالعكس والعكس صحيح، وقد يتعرض في سلوكه الكلي للشدائد بسبب سلوكه المهني. وقد تهان كرامة أسرته أو ذويه بسبب سلوكه المهني وقد تنتهك ممتلكاته بسبب سلوكه المهني وقد يكون لتوفير هذه الحصانة بالوجه الأكمل انعكاسا إيجابيا ليس فقط على مستوى جهاز العدالة ولكن أيضا على مستوى تنظيم المجتمع.

الخلاصة

إن خلاصة هذا البحث تكمن فيما أمكن تحصيله من خلال هذه الدراسة المتواضعة والتي جاءت محاولة لإثراء حقل المعرفة الحقوقية والقانونية والمنهجية لقطاع مهنة المحاماة والقضاء والقانون والمجتمع. من خلال إبراز دور مهنة المحاماة في تنظيم المجتمع والأدوات التي تعتمدها في ذلك وكذلك من خلال دورها في مرفق العدالة ودورها في توجيه القضاء.

ولئن كان هذا البحث أثار بعض النقط والموضوعات التي لها حساسية مفرطة وحيوية على مستوى القضاء والمجتمع ككل، فإنه لم يناقشها إلا من باب التقريب إليها والتعريف بها دون أن يخوض في تفاصيلها بشكل مركز وذلك مرده إلى ضيق المجال وضرورة الالتزام بموضوع البحث وليس إلى القصور في الإنجاز أو التقصير فيه.

وعموما فإن ما يستخلص منه هو أن المحاماة أداة تنظيم وعدل ترافق القضاء والمجتمع وتلازمهما من أجل الانتقال بهما من حضارة إلى حضارة وهي بذلك تؤدي رسالة نبيلة عبر التاريخ ووظيفة ذات نفع عام أمام القضاء وتقدم خدمات قانونية واجتماعية مختلفة للجمهور وهي بهذا الاعتبار تعزز وجود القاعدة القانونية والمجتمع والقضاء الأمر الذي يجعل منها ظاهرة مرتبطة بالدولة لا سيما إذا أخذنا في الحسبان أنها في وقت من الأوقات كانت تعتبر مرفقا عاما من مرافق الدولة.

ذ/ حسن فيلالي
           

 





.

Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement